عقدة الرابع عشر من تموز عند "المثقفين" والإسلاميين الشيعة

غدر الإسلاميون بالثورة العراقية في زمانها وبعد ان آلت السلطة لهم بعد سقوط نظام البعث.

للأحزاب الشيعية وجماهيرها و"مثقفيها" عقدة من ثورة الرابع عشر من تموز وقيادتها، وعلى الأخص زعيمها عبدالكريم قاسم، على الرغم من أنّ الثورة أنصفت الشيعة كطائفة بعد أن عانوا الأمّرين منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتّى قيام الثورة، ناهيك عن تهميشهم وقمعهم طيلة العهد العثماني وإحتلاله للعراق. ولو توخينا الدقّة أكثر، فأنه ونتيجة لفساد السلطات التي تلت عهد ثورة 14 تموز وإستهتارها بمقدّرات شعبنا ووطننا ومنها سلطة المؤمنين بالله اليوم، فأن هناك من ركب موجة العداء لثورة تموز ونتائجها محمّلين إياها ما آلت إليه أوضاع العراق اليوم، وكأنّ شعب العراق كان يعيش ببحبوحة من العيش الرغيد في ظل النظام الملكي الإقطاعي المرتبط بلندن. ومن هؤلاء أعداد لا بأس بها من "اليساريين" والليبراليين علاوة على البعثيين، وأعداد كبيرة جدا من الأجيال التي ذاقت مرارة الحروب والحصار والفساد وخصوصا من أهالي الجنوب الشيعة أنفسهم، هؤلاء الذين أنصفت ثورة تموز آبائهم وأجدادهم بعد أن أعادت لهم كرامتهم التي فقدوها في ظل الحكم الملكي وهم يعانون الذل وسياط الإقطاع تلهب ظهورهم.

يحاول الكثير من الناقمين على ثورة الرابع عشر من تموز إظهارها وكأنها أنهت نظاما ديموقراطيا، أو على الأقل نظاما يسير بنهج ثابت نحو الديموقراطية. ويتباكى الكثير منهم على مصير العائلة المالكة ومقتلها، والذي هو بالتأكيد أمر مرفوض وجريمة بشعة، محمّلين قيادة الثورة مسؤولية مقتلهم مع سابق إصرار وترصد! على الرغم من أنّ الأحداث التأريخية وهي لا زالت طريّة تشير الى غير ذلك، كما وأنهم يصفون الثورة بالوحشية والهمجية وهنا يلتقون مع رأي السفير الأميركي بالعراق والديمار ج. غالمان الذي وصف التظاهرات العارمة في بغداد بعد ساعات من إعلان الثورة من أنها "لا تمثّل العراقيين بل رعاعا جمعهم المحرضّون!"(1)

إنّ الذين يهاجمون ثورة الرابع عشر من تموز والتي بلا شك لها أخطائها كأية ثورة أو إنتفاضة أو تحرك جماهيري واسع ويلصقون بها شتّى التهم، يحاولون لي عنق الحقيقة عن طريق فتح أبواب تلك المرحلة بإرهاصاتها وأحداثها العاصفة بمفاتيح اليوم، ناسين أو متناسين أنّ الذين قادوا الإنقلاب العسكري والذي تحول الى ثورة كما سنتاوله لاحقا، هم رجال عسكريون بالدرجة الأولى، رغم تنسيقهم مع عناصر مدنية حزبية من خلال جبهة الإتحاد الوطني. وهؤلاء لا يريدون بالمرّة مقارنة ثورة الرابع عشر من تموز في بغداد 1958، مع ثورة الرابع عشر من تموز في باريس 1789. تلك الثورة التي أنهت النظام الملكي وأعدمت الملك وزوجته والآلاف غيرهما بالمقصلة، والتي كان تأسيس الجمهورية العلمانية الديموقراطية أحد أهم أهدافها، قبل أن تتحول فرنسا بعد نجاح الثورة الى جمهورية إستبدادية عسكرية، وليدفع زعيمها روبسبير حياته تحت المقصلة التي أعدم بها الآلاف من الفرنسيين. ونحن نقارن بين الحدثين في بغداد وباريس، علينا أن نميّز بين الشعبين وتطورهما الفكري والسياسي والعلمي والثقافي، قبل أن نحمّل ثورة تموز ما لا تتحمله للفرق الكبير بين طبيعة الشعبين.

بعد ساعات على إعلان الثورة "إزدحمت العاصمة بالناس- ’شرقاوية‘ وآخرين- والكثير منهم بمزاج قتالي، يوحدّهم شعور واحد: ’الموت للخونة وعملاء الأمبريالية‘. وكان الأمر يشبه موجة المدّ الآتية، التي لفّت أولا، وبعنف، بيت نوري السعيد والقصر الملكي، ثم سرعان ما إمتدّت الى القنصلية والسفارة البريطانيتين وقصور أخرى، وأصبحت مرعبة وساحقة في زحفها الى درجة أن العسكريين الثوريين -القلقين ممّا يحدث- أعلنوا منع التجول، ثم أعلنوا في وقت لاحق بعد الظهر الأحكام العرفية. وبعد أن إنحسرت الحشود في النهاية، وبعد هبوط الظلام، كان تمثال فيصل، رمز الملكية، ملقى مفتتا على الأرض، وكانت صورة الجنرال مود، فاتح -محتل- بغداد ملقاة في الغبار خارج المستشارية البريطانية القديمة المحروقة."(2)

من خلال ما جئنا على ذكره، نكتشف ومن مصدر محايد وأكاديمي، هو المؤرخ الراحل حنا بطاطو، من أنّ العسكر فوجئوا بالتحرك الجماهيري وشدّته ونتائجه ما دفعهم لإعلان منع التجول وإعلان الأحكام العرفية بعدها، كما نكتشف بؤس أعداء الثورة وبكائهم على الجنرال مود الذي إحتل بغداد، والذي كافأه النظام الملكي المرتبط بلندن بوضع تمثال له في قلب عاصمة بلدهم.

لم تكن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حدثا فوضويا ولا حدثا آنيا، بل تعود ولكي نضعها في سياقها التأريخي الى تراكم أحداث سبقتها بعقود. فالعراق لم يكن هادئا يوما ولا خانعا يوما لإملاءات الإنكليز وأذنابهم الملكيين، بل كان مرجلا ينتظر ساعة الإنفجار. فالإنتفاضات والإضرابات والإنقلابات العسكرية، وقصف المناطق الريفية وإحتكار السلطة والتمييز الطائفي في توزيع المناصب. كانت بالحقيقة هي تراكمات كمّية ونوعية لذلك اليوم الذي وجدت فيه الجماهير المسحوقة نفسها في أتون معركة حياة أو موت، فأختارت الحياة وأنطلقت الى قلب المعركة فحسمتها بعد أن أظهرت قوتها في الشارع، ما منع من أي ردود أفعال تذكر من قبل مناصري الملكية وأعوانها وأتباعها على مستوى البلد بأكمله.

في جملة ذات مغزى وقد تفسّر أحداثا تقع بعد عقدين ونصف العقد من تأريخها وصل السياسي العراقي جعفر ابو التمّن بتأريخ الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1933 الى "درجة من الخيبة بحيث أنه ما عاد يؤمن بإمكانية الحصول على السلطة بالطرق الديموقراطية وذلك لقناعته بأنّ العراق كان له إسم الحكم الإنتخابي لا واقعه."(3)

ويبدو أن هذه المقولة لا زالت ولليوم تحمل الكثير من الصحة والديمومة، خصوصا إذا عدنا للإنتخابات التي أجريت يوم 6 كانون الأول/ديسمبر 1934 والتي تلاعبت حكومة المدفعي الجديدة وقتها "بعمليات الإقتراع وضمنت إنتخاب مرشحيها وأولئك الذي دفعوا مبالغ ضخمة للحصول على كرسي النيابة"(4). لذا فأن بكاء الإسلاميين وبقية أعداء ثورة تموز يبدو مفهوما والتاريخ السياسي البرلماني العراقي يعيد إنتاج نفسه بنفس الوجه البشع والقبيح، حيث بيع المناصب الوزارية وشراء المقاعد النيابية كما الأمس يجريان على قدم وساق وبشكل علني. وقبل الإنتقال الى حدث الرابع عشر من تموز إن كان ثورة أم إنقلابا، دعونا ننهي فظاعات وإستبداد النظام الملكي الذي يتباكى الكثير عليه اليوم، نتيجة إنحسار الوعي ومحاولة الإسلام السياسي عزل شعبنا عن تاريخه، من خلال حدثين.

أولهما إعتراف مضحك مبكي لأحد رجالات العهد الملكي وهو عبدالكريم الأزري النائب والوزير في تلك الفترة إذ يقول "في صبيحة يوم من أيام تشرين الأول سنة 1943 إتصلّ بي قريبي السيد حسين النقيب الرفيعي بالهاتف قائلا لي أهنئك من صميم قلبي، فسألته عن ماذا تهنؤني؟ أجابني على فوزك بالإنتخابات النيابية، ألم تسمع الإذاعة؟ فقد ذكرت إسمك بين الفائزين في الإنتخابات النيابية عن لواء العمارة (محافظة ميسان حاليا).. وقد تبين لي فيما بعد أن ما أنبأني به السيد حسين النقيب الرفيعي كان صحيحا. وإنني قد أُنتخبت عن لواء العمارة، وأنا لا أدري، ولم أراجع أحدا من الناخبين ولا من المنتخبين الثانويين- وكانت الإنتخابات تجري وقتئذ على درجتين- ولا أحدا من رجال الإدارة المحلية ولا حتى وزير الداخلية." ويعلّق الأزري على ذلك "وهكذا جئت الى مجلس النواب عن غير علم ولا رغبة مني وبدون أن أبذل جهدا في ذلك. لقد إنتخبني في الواقع من الأمر نائبا عن لواء العمارة الحكومة ممثلة بوزير داخليتها."(5)  

والحدث الثاني وهو من جنس المضحك المبكي أيضا وهو خسارة السياسي الشيعي جعفر ابو التمن لإنتخابات عضوية المجلس التأسيسي في قطاع الكاظمين وهي منطقة شيعية خالصة فقد "حصل جعفر على 19 صوتا، بينما حصل في نفس المنطقة عبدالجبار الخياط، المرشّح المسيحي على 32 صوتا، وحصل المرشح اليهودي مناحيم دانيال على 26 صوتا!"(6). إن الكارثة من هذه الأرقام وإنتخاب الأزري كبيرة جدا، وتعتبر مقياسا لفساد النظام الملكي وإستبداده. لكن هذا الفساد والإستبداد اليوم أصبحا دلالة على همجية ثورة تموز وزعيمها، كون الثورة أنهت هذا النظام "الديموقراطي" وفتحت على العراق ابواب الجحيم بنظر الإسلام السياسي ومن على دربهم من بعض اليساريين الناقمين والليبراليين ومن يدّعون العلمانية والمدنية الذين يريدون تحميل ثورة تموز المآل الذي آل إليه العراق وشعبه!

هل أحداث الرابع عشر من تموز 1958 ثورة أم إنقلاب؟ يقول كارل ماركس في تعريفه لمفهوم الثورة "أن كل ثورة تلغي المجتمع القديم هي ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغي السلطة القديمة هي ثورة سياسية." ولكي نبسط هذا التعريف الماركسي للثورة، دعونا نعود لما جاء به حنا بطاطو حول أحداث الرابع عشر من تموز إذ يقول: "يجب أن لا يقتصر حقل الرؤيا عندنا على ما سبق أحداث 14 تموز (يوليو) بل أن يشمل أيضا ما تلاها. والواقع أن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف، أو لتثير المخاوف أو الآمال بهذه الجدية التي غزت سنتي 1958 – 1959. والواقع أنّ 14 تموز (يوليو) أتى معه بأكثر من مجرّد تغيير في الحكم. فهو لم يُدّمر الملكية أو يُضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية وحسب، بل أنّ مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثّر بعمق. ولقد دمّرت الى حد كبير السلطة الإجتماعية لأكبر المشايخ ملّاكي الأراضي ولكبار ملّاكي المدن، وتعزّز نوعيا موقع العمال المدينيين والشرائح الوسطى والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغيّر كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال الملكية من ناحية ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صُلب القانون الوطني من ناحية أخرى. وصحيح أنّ الثورة لم تتجذّر بالعمق بما يكفي، ولكن هذا ما يميل الى تمييز كل الثورات التي تلعب فيها عناصر الطبقة الوسطى دورا تقريريا تقريبا. وصحيح كذلك أنّ التيه ميّز مسار الثورة وأنها كانت لها تعاقبات صعود وهبوط، ولكن هذا ناجم عن عدم إنسجام الطبقة الوسطى وعن الإنشقاقات في صفوفها وصفوف الضباط الأحرار، الذي هو ذراعها المسّلحة والشرعية القائدة فيها."(7)

لو تجاوزنا هنا الإختلاف في وجهات النظر حول إن كان حدث 14 تموز ثورة أم إنقلاب، وأتّفقنا مع الرأي الثاني الذي يروّج له الإسلاميون وجيوشهم الألكترونية ومعهم آخرون إكتشفوا فجأة أنّ 14 تموز هي سبب مشاكل العراق اليوم، وأنّ النظام الملكي كان ملائكيا في تعامله مع أبناء شعبنا وحريصا على كرامة وإستقلال وطننا وأن إستمراره كان سينقل العراق الى مصاف الدول المتقدمة(!) وإتّفقنا معهم أيضا من أنّ ضباطا مغامرين غيّروا مسيرة التأريخ بالعراق بدباباتهم ورشاشاتهم التي أودت بحياة الديموقراطية والتقدم والرفاهية التي كانت من أهم سمات العهد الملكي الزاهر(!) فمن حقّنا هنا أن ننظر الى إنجازات هؤلاء الإنقلابيين خلال فترة حكمهم "الكارثية" التي لم تتجاوز الخمسة أعوام وما تركوه لنا ساعة رحيلهم ونقارنها بما تركه لنا البعث الفاشي ساعة رحيله في التاسع من نيسان 2003 وهو على رأس السلطة لثلاثة عقود ونصف، وما نعيشه اليوم تحت ظل العمامة والأحزاب الإسلامية ومعها كل أحزاب المحاصصة التي وصلت الى الخضراء على متن دبابة أميركية وليس على متن دبابة خرجت من معسكر المنصورية بديالى، سلطة صاحبة أكبر ميزانيات العراق بكل تاريخه والتي بددتها لفسادها وسرقاتها وتهريبها وجرائمها. ستة عشر سنة والأحزاب الحاكمة بالعراق وفي مقدمتها الإسلامية لم تستطع أن تبني عُشْر ما بنته ثورة الرابع من تموز ولن تبني. فهل الضابط الإنقلابي المغامر سبب تدمير العراق، أم الذين قتلوه وثورته من بعثيين وقوميين عربا وكوردا ومراجع دين وزعماء عشائر وبقايا الإقطاع؟

لو تركنا موقف تيارات من العلمانيين والليبراليين والمحسوبين على اليسار من ثورة تموز ومحاولاتهم المستمرة للنيل منها، فإن موقف الإسلاميين منها هو موقف تمليه مصالحهم التي هددتها ثورة تموز بقرارتها. فتدمير العلاقات الإجتماعية المتخلفّة بسلسلة قوانين المرأة والعشائر والإصلاح الزراعي، هدّدت المصالح القديمة الجديدة التي تربط المؤسسة الدينية الشيعية بالإقطاع وملّاكي الأراضي منذ القدم ولليوم. وما شكل العلاقات الإجتماعية المتخلفة اليوم والأحزاب الشيعية على رأس السلطة، وترسيخها لدور العشيرة مقابل دور الدولة التي تهينها المؤسسة الدينية الشيعية بتدخلها المباشر بتركيبتها نتيجة وصايتها على المشهد السياسي بالبلد، الا ترجمة لأهم أسباب معاداة الأحزاب الشيعية و"مثقفيها" ليس لثورة تموز وحسب، بل لكل ما هو مشرق وإنساني في بناء علاقات إجتماعية متجانسة. ففي باب حقوق المرأة مثلا والتي جسدتها ثورة تموز بقرارات ثورية، نرى المثقفين الشيعة يتوارون عن الأنظار عندما يتعلق الأمر بزواج القاصرات وفق المذهب الجعفري، أو إباحة الزواج من الرضيعات وتفخيذهنّ وفق نفس المذهب، ولا يستطيعون الحوار حولهما وخصوصا الزواج من الرضيعة والتي تعتبر شكل من أشكال البيدوفيليا. ولازال الكثير من "مثقفي" الشيعة يشعرون بدواخلهم بالعار على ما يبدو وهم يرون مرجعيتهم وهي تتحالف مع أكبر الأحزاب فاشية بالعراق لإغتيال ثورة تموز، والتي بإغتيالها دخل العراق الى النفق البعثي المرعب، وليخرج منه مباشرة الى النفق الإسلامي المتخلف.

التاريخ في العراق يكتبه الجبناء والخونة والجواسيس.. لكن الى حين.

إشارات

(1) العراق الكتاب الثالث. حنا بطاطو ص 115

(2) نفس المصدر ص 114 – 115

(3) محمد جعفر ابو التمن، دراسة في الزعامة السياسية العراقية. د. خالد التميمي ص 331

(4) المصدر السابق ص 349

(5) ثورة في العراق 1958 – 1963: نقد تجربة الدولة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري. جعفر الحسني ص 55

(6) محمد جعفر ابو التمن، دراسة في الزعامة السياسية العراقية. د. خالد التميمي ص 197

(7) العراق الكتاب الثالث. حنا بطاطو ص 116