عقرون 94.. المرارة والوعي بالتاريخ

عمار باطويل يحكي قصة ما حل بالجنوب من خلال حكاية قرية تسمى "عقرون" في وادي دوعن بحضرموت. 
الموقع هنا عقرون، والزمن عام 1994. وهذه دقة متناهية ولها دلالتها
الماضي يُتذكر في الرواية، والحاضر يُروى، والمستقبل يُنظر إليه في أفق الأحداث
النقطة الزمنية تُتخذ منطلقاً للنظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء
عبدالسلام الربيدي 
صنعاء

أصدر عمار باطويل روايته الأولى «سالمين» في عام 2014، وفيها يتعرض لقصة سالمين العبد طوال العقود السبعة الأخيرة من القرن العشرين. يعود أصل سالمين - بطل الرواية - إلى حضرموت، غير أنه يقرر الهجرة إلى جدة للتخلص من هذه الوصمة الاجتماعية. وهذا ما لا يتم، وهو ما يجعل الحكي مصبوغاً بمرارة لا يخطؤها حس القارئ. 
يحمل بطل الرواية اسم الزعيم الجنوبي اليمني سالم ربيع علي (سالمين)، الذي تولى الحكم في الجنوب من سنة 1969 حتى 1978، والذي يعد الرجل الأقوى في تاريخ البلد؛ فهو الذي أرسى دعائم دولة حديثة انتهت نظرياً عام 1990 مع الوحدة، وعملياً مع حرب صيف 1994. سالمين قنن المساواة بين جميع المواطنين في الجنوب، سواء تلك المتعلقة بالجنسين، أم تلك المختصة بالطبقية الاجتماعية. غير أن قصة سالمين العبد بطل الرواية استحقت جدارة الرواية، لأنها دليل الفشل الذي منيت به جهود التنوير في هذا البلد، بعد أن انتصر الظلام الذي لا يزال مطبقاً حتى اليوم.
في روايته الجديدة "عقرون 94" الصادرة عن دار الثقافة (2017) يسير باطويل في الخط نفسه، إذ يحكي قصة ما حل بالجنوب من خلال حكاية قرية تسمى "عقرون" في وادي دوعن بحضرموت. وعمله ذلك يشبه عمل الأنثروبولوجي الخبير الذي يركز اهتمامه البحثي على موقع مكاني محدد وزمن محدد. الموقع هنا عقرون، والزمن عام 1994. وهذه دقة متناهية ولها دلالتها. فالنقطة الزمنية هذه تُتخذ منطلقاً للنظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء.

عند نزول الأمطار وسيلان المياه الغزيرة يلتقي سيل مراه بسيل عقرون ليتحد الولي بنصفه الأنثوي في دفق طبيعي عشقي يتحدى الزمن ومتغيراته، ويتحدى ثقافة الكراهية التي خلقها الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان

الماضي يُتذكر في الرواية، والحاضر يُروى، والمستقبل يُنظر إليه في أفق الأحداث. مع تقدم القوات الشمالية نحو الجنوب ومن والاها في حرب 1994 تبدأ الرواية. عقرون بطل الرواية (وقد سماه أبوه باسم الوادي الذي ترجع تسميته إلى ملك قديم أو إلى ولي صالح)، من فئة تنتمي إلى طبقة تحتية تهتم بالزراعة في المجتمع التقليدي الحضرمي، وهم فئة الصبيان. أما صديقه أيوب فمن فئة العبيد السود في ذلك السلم التراتبي التقليدي. وكلاهما يعملان في المجال الفني الشعبي، وهو مجال الشرح (الرقص) والغناء.
ورث عقرون المهنة الفنية عن أمه، واستمر فيها في تسعينيات القرن الماضي، على رغم شظف العيش وبوار سوق الفن وميل كثير من أبناء جيله إلى الهجرة إلى السعودية. لم يسافر عقرون إلى السعودية؛ لأنه منع من موظفي الجوازات المنتمين إلى النظام المركزي في صنعاء، الذي يسميه عقرون نظام الفندم الكبير. يوصم عقرون من موظفي الدولة الجدد بسبب لونه الداكن، بأنه صومالي أو خادم.
يقع أيوب في حب مريومة التي تنتمي إلى فئة الحرافيش القادمين إلى الوادي وإلى المكلا من الشمال بعد صيف عام 1994. وهم من يسمون في أماكن أخرى من اليمن بالأخدام. مريومة فتاة «غير سوية» غير أنَّ أيوب يغرم بها، ويطرد من أهله بسببها، ما يجعله يلتحق بها وبأهلها لينجب منها ولداً يكون مستقبله مرتبطاً بهذه الفئة المهمشة. هؤلاء هم فئة الشباب في الرواية، غير أن هنالك فئة الآباء، وهم كاسترو والكبش وعيدروس والعم منصور، وغيرهم من سكان القرية. كاسترو الشيوعي العتيق المتبع لنهج الرئيس سالمين في الجنوب يقف بصرامة ضد نظام صنعاء المحتل للجنوب في رأيه. أما خصمه الكبش فيرى أن الشرعية القادمة من الشمال قد انتصرت على الشيوعيين، ولديه الأمل في أن ينال منصبا يتيح له الانتقام من خصومه، وعلى رأسهم كاسترو. يمثل الكبش فئة قبلت بالأمر الواقع وتماهت مع الفساد الذي شاع في تلك الحقبة. ومن هؤلاء الذين قبلوا الوضع من حصل على امتيازات كبيرة في جهاز دولة الوحدة، في مقابل الخدمات التي يسديها إلى النظام، وفي مقابل متاجرته بالأعراض، واستهانته بواقع الناس المتردي، كما تصف الرواية.
في السرد وصف لواقع الحال، وفيه عرض لأهم المظاهر السلبية التي طاولت الجنوب بعد الحرب. ومنها: تعزيز نظام الطبقية، الذي ألغاه الحزب الاشتراكي في الجنوب، وترويج ثقافة القات، الذي أصبح يوزع مع ما فيه من مبيدات كيماوية، والمتاجرة بالسلاح، وتعزيز ثقافة «القبائلية» و«الثأر»، وغياب سيادة القانون، وانتشار الفساد المالي والأخلاقي، وتحريم الفن الذي تشتهر به حضرموت، وانتشار جماعة الدعوة، وشعارات حزب الإصلاح والمؤتمر، وطمس معالم الهوية الدينية والمعمارية في الجنوب، وقدوم موظفين وعسكريين وباعة وموظفي استخبارات وفئات مسحوقة إلى حضرموت، مع تزايد هجرة شباب الوادي وفصل أبناء البلد من أعمالهم.

رواية
الرواية تنطوي على مادة وثائقية تخص الثقافة المحلية في حضرموت

هذه المظاهر تمثل صدمة نفسية جمعية في مرحلة ما بعد الحرب وأفول دولة الجنوب. وهي الحافز على الحكي والوعي بالتاريخ في الرواية. من هنا تذكُّر الشخصيات الأساسية مثل كاسترو (الملقب بالزعيم الكوبي) وأيوب، وغيرهما لأيام الرئيس سالمين في سبعينيات القرن الماضي. يقول أيوب: «قال أبوي إن الريّس سالمين هو الذي علمنا نحن الفلاحين معنى الحياة وكرامة الإنسان، ولولا سالمين لضعنا». (ص19). وتذكّر بعض الشخصيات، كعائض الفنان، وجهود سالمين في تأسيس الدولة ووصولها إلى كل مناطق البلد واحتفائه بالفن والثقافة وروحه الشعبية وتواضعه.
في أفق هذا المنظور الزمني والوعي الحاد بمسار التاريخ الحديث في اليمن تنبثق مقاومة بعض الشخصيات لواقع الحال. الدكتور عيدروس ذو اللون الأسود، الذي نال فرصة الدراسة في روسيا أيام حكم الرئيس سالمين، اختار مبدأ النضال ضد الظلم اللاحق ببلده من طريق الكلمة في الصحافة.
وهو الأمر الذي عرضه للتهميش والملاحقة ثم السجن. شخصية عيدروس تمثل شخصيات جنوبية فكرية وقفت ضد نظام ما بعد حرب 1994. وإلى جانب ذلك كانت صور المقاومة عديدة، منها خطب كاسترو المؤيدة لحركة «موج»، وغناء عائض الساخر، وشعر عسكر علي اليافعي. يقول عقرون عن تلك الموجة «هنالك أصوات وإنْ كانت صغيرة، ستكبر مع الأيام، وسوف يكون لها صدى». (ص51). وهو ما يعد تنبؤاً بثورة الجنوب السلمية، التي مثلها الحراك الجنوبي، الذي انطلق بداية عام 2007 على يد عسكريين جنوبيين مبعدين من الجيش. 

novel
نقد بليغ للطبقية المتجذرة في حضرموت

إلى جانب هذا الحدث المحوري تنطوي الرواية على نقد بليغ للطبقية المتجذرة في حضرموت والراحلة مع المجتمع الحضرمي في مهاجرة، ومنها مهجر جدة. ظافر المغني الذي بدأ تعلم الإنكليزية يعيره مواطنوه في المهجر بأنه عبد، وأنه لن يستطيع تعلم الإنكليزية التي بدأ تعلمها هناك. غير أنه فاقهم وتعلم اللغة وعمل في شركات أجنبية. عاد ظافر إلى وطنه بعد حرب الخليج، وظل في القرية إلى جانب منصور بائع الفضة الرافض لعادة الرحيل والهجرة إلى مشارق الأرض ومغاربها، التي اشتهر بها الحضارم.
وإلى ذلك تنطوي الرواية على مادة وثائقية تخص الثقافة المحلية في حضرموت، بل وتحتفي بها. وهذه واحدة من سمات الرواية العربية المعاصرة، التي يحضر فيها التاريخ بكثافة ويهيمن فيها موضوع التوثيق.
زيارة الولي الصالح أحمد بن عيسى، وهو من الأبطال الشعبيين، كغيره من الأولياء المنتشرين في أصقاع حضرموت المختلفة، أحد تلك المواضيع الموثقة. أنواع الشروح (أنواع الرقص) والغناء تجد لها مساحة وافية في الرواية، كيف لا وبطل الرواية أحد أبطال المدارة (مكان الرقص) المتنقلين في المدن والقرى. إلى جانب ذلك، نجد الأساطير، ومنها أسطورة عقرون الملك أو الولي، الذي مات في الوادي وسمي الوادي باسمه، كما سمي وادٍ آخر بوادي مراه؛ أي وادي امرأة عقرون، التي ماتت قبله ودفنت في ذلك الوادي. وعند نزول الأمطار وسيلان المياه الغزيرة يلتقي سيل مراه بسيل عقرون ليتحد الولي بنصفه الأنثوي في دفق طبيعي عشقي يتحدى الزمن ومتغيراته، ويتحدى ثقافة الكراهية التي خلقها الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان.