عقلنا الثاني هاتف ذكي لا يساعدنا على التفكير

المشكلة في التكنولوجيا المتصاعدة، تكمن في أن الهواتف الذكية التي تقدم لنا خدمات رائعة، تحولها الشركات إلى متاجر لعرض دمى لحصد المزيد من الأموال.
يقضي الانسان المعاصر ثلاث ساعات يوميا للتحديق في هاتفه الذكي

إنه معدل مثالي أن يقضي الإنسان ساعتين في القراءة يوميا، فوسط مشاغل الحياة، تكون القراءة مساحة أمل وهدوء وطريقا لإنتاج حزمة من الأفكار الجديدة في الذهن، لكن الأرقام الأخيرة تتحدث عن أكثر من ساعتين يقضيها الإنسان في التحديق بهاتفه الذكي! ربما يكون جزء من هذا الوقت المستغرق مخصصا للقراءة، لكنه في كل الأحوال لا يمتلك فعل التأثير على الوعي المرتجى من القراءة، إننا نشاهد أكثر مما نقرأ ونفكر ونحلل! تلك مهمة الشاشات الصغيرة المغرية.

وتذكر دراسة جديدة أن البريطانيين قضوا ما معدله 2.4 ساعة في اليوم على هواتفهم المحمولة عام 2019، بزيادة قدرها 15 بالمئة عن العامين السابقين، ولكنها أقل من المتوسط ​​العالمي الذي يبلغ 3.7 ساعة في اليوم.

وتشير الدراسة التي أعدتها شركة App Annie المتخصصة بتحليل مستويات وتأثيرات استخدام الهاتف على الإنسان المعاصر، إلى أن متوسط الاستخدام العالمي للهاتف الذكي ازداد بمقدار 35 بالمئة عما كان عليه في عام 2017.

فلنتخيل بعدها الشغف الذي تلبسنا عندما نعرف أن الناس في بريطانيا أنفقوا 2.5 مليار دولار على تحميل التطبيقات عام 2019، بزيادة 85 بالمئة عن السنوات الثلاث الماضية، بينما تم تحميل تلك التطبيقات 21.5 مليون مرة.

تختصر نتائج هذه الدراسة فكرة مفادها أن الهواتف الذكية ستكون عقلا جديدا ثانيا لنا لتدير علاقاتنا بالآخر كما ترتبط بجميع أجهزتنا في المنزل وخارجه بوصفها واجهة أساسية نتفاعل من خلالها مع العالم من حولنا. لكن في الواقع، عقل لا يساعد على التفكير، لأنه يصيب عقلنا بالاتكالية والكسل وينتظر أن تأتيه النتائج كاملة!

فهل حقا أن الشاشات الصغيرة تساعدنا على القراءة والتفكير السليم وتنمية وعينا؟ يختصر بول بارنز المدير الإداري لشركة App Annie الإجابة بكلمة “الترفيه”!

فالاتجاه الأكبر في جميع أنحاء العالم حسب بارنز، يسير نحو مشاهدة المزيد من الترفيه على الهواتف.

ويقول “أصبح الهاتف المحمول الشاشة الأولى التي يستخدمها الناس. في البداية كنت تجلس لمشاهدة التلفزيون وربما تنظر إلى تويتر على هاتفك. لقد تغير ذلك فعلا، هناك نمو كبير في عدد الجلسات حول الفيديو. ازداد بنسبة 34 بالمئة في العام الماضي في جميع أنحاء العالم”.

يتحدث بارنز متفائلا بالترفيه ويطالبنا بمتابعة الناس في القطارات والحافلات لنرى أنهم جميعا مشغولون بمشاهدة شيء ما على هواتفهم، وهذا تحول كبير يعود إلى زيادة عرض النطاق الترددي للبث بالإضافة إلى الشاشات المتطورة، حيث يعدنا برؤية المزيد منها.

ولا يرى بول بارنز المدير الإداري لشركة App Annie في المملكة المتحدة وأوروبا، أن هذا الانشغال الشخصي بالهواتف يطمس الحدود في التفاعلات الاجتماعية، لأن المستخدمين أنفسهم نشطوا بإنشاء مقاطع فيديو مضحكة يتفاعلون بها مع أفراد العائلة والأصدقاء! ويؤكد في مثال على ذلك أنه تم قضاء 68 مليار ساعة على خدمة الفيديو الموسيقية، والتي حققت ثاني أعلى معدل نمو في التنزيلات لأي تطبيق اجتماعي في المملكة المتحدة.

كم نبدو بحاجة إلى من يخبر هذا السيد المتفائل بالترفيه، إذا كان قد قضى البريطانيون أنفسهم نفس الساعات على قراءة صحفهم “هذا أكثر ما أفكر فيه في وقت كتابة هذا المقال”، بل هل حظي السيد وليم شكسبير جد أولئك البريطانيين بهذا الوقت الهائل، ماذا عن وليم بليك وت.إس إليوت وفيرجينيا وولف، هل جعلتهم الهواتف الذكية “عقولنا الثانية” يشعرون بالراحة في رقادهم الأبدي. إن إسحاق نيوتن نفسه لو كان حيا لعامل دعوة السيد بول بارنز بالازدراء وهو يجعل من الترفيه أداة لقتل التفكير.

سبق وأن توصل عالم الاجتماع المعاصر يوفال نوح هراري إلى خلاصة مؤلمة بمجرد أن تفهمنا أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية بشكل أفضل مما نفهم أنفسنا، ما الذي يعنيه هذا لاختيارنا للمهن أو أحبائنا أو قرارات التصويت؟ يتصور هراري عالما تتشاور فيه آنا كارنينا مع خوارزمية موقع فيسبوك، قبل أن تقرر ما إذا كانت ستقع في غرام الكونت فرونسكي “وهو ما يؤدي إلى انتحارها في نهاية الرواية”، وحيث تحدد أنظمة الذكاء الاصطناعي معايير صنع القرار السياسي. لن تصبح ديمقراطياتنا أكثر من مجرد “عرض عرائس عاطفي”، قد يظن البعض أننا وصلنا إلى هذه المرحلة منذ الآن كما بدا ذلك في تفاؤل بول بارنز.

بالأمس قال أحد الداعمين للحملة الحكومية الداعية إلى عدم منح الأطفال الهواتف الذكية، إن على الآباء أن يشعروا بالخجل قبل أن يقدموا لأطفالهم تلك الهواتف، بينما طالب آخر بإصدار عقوبات رادعة على المشاة الذين يحدقون في الهواتف بالطريق، لأنهم ببساطة لا يبالون بمن حولهم ولا يعيرون بالا عما إذا كانوا يحولون دون منع الآخرين من المرور أو يصطدمون بهم.

إن ما يسمى بعقلنا الثاني “الهاتف الذكي” أفقدنا الكياسة، وهذا لا يعني أبدا التقليل من قيمة التجربة الحية التي يقدمها الإنترنت والاتصالات السريعة. فالعودة إلى الجذور مرتبطة بالنمو العقلي واستمرار التفكير وليس الترفيه. من دون أن ننفي حاجتنا له كوسيلة للراحة والمتعة والاسترخاء من التفكير نفسه.

ثم من السذاجة الاعتقاد أن الأجهزة الاستخباراتية في العالم تخلت عن محاولة الالتفاف من أبواب خلفية في برامج الترفيه لاقتحام خصوصية المستخدمين والتجسس عليهم ودراسة أهوائهم.

المشكلة في تلك التكنولوجيا المتصاعدة، أن الهواتف الذكية التي تقدم لنا خدمات رائعة، تحولها الشركات إلى متاجر لعرض دمى لحصد المزيد من الأموال.

مجتمع الهاتف الذكي يبتعد اليوم عن الهدف الذي وجد من أجله الإنترنت، إلى درجة تجعلنا نشك بأن الإنسان الذي يعيش اليوم أفضل عصور البشرية، ربما يتقلد مرتبة متقدمة بالغباء! هذا يعني أننا أضعنا القصة التي وجد من أجلها الإنترنت كتجربة حية للبشرية.