'علبة الأحلام' تختزن نصوصا أدبية يجرحها الحرير

مجموعة الكاتبة عزة عز الدين القصصية تتحسس كل ما هو إنساني سواء كان وجعا أو صدمة أو حبا أو عطفا وإشفاقا، لكنها تصطدم بخبث الحياة وقوتها القاهرة فوق قدرة الإنسان على الاحتمال.

القاهرة - في عالم قصصي مثالي تحمل الكاتبة عزة عز الدين المقص والمنجل لتشذيب الحياة من العشب الضار، لكن المقص الذي تحمله كثيرا ما يجرحها ويجرح القارئ.

تتحسس في مجموعتها القصصية "علبة الأحلام" كل ما هو إنساني سواء كان وجعا أو صدمة أو حبا أو عطفا وإشفاقا، لكنها تصطدم بخبث الحياة وقوتها القاهرة فوق قدرة الإنسان على الاحتمال.

هناك خيوط كثيرة تربط بين فصول المجموعة القصصية أولها إعلاء شأن الرومانسية بمعناها الأسمى الأقرب إلى المثالية في الإحساس والسلوك. وبالرغم من أن الكاتبة لا تطرح مثاليتها على أنها نوع من الضعف الإنساني فإنها تترك ذلك الانطباع وتُحدث هذا الأثر بقلم يقطر مرارة ويفيض حزنا.

الخيط الثاني الذي يربط بين فصول المجموعة هو الخوف.. خوف الإنسان على حلمه وخوفه على عالميه الداخلي والخارجي، لذلك تمتلئ المجموعة بمفردات "علبة الأحلام" و"الواحة ذات الأسوار" و"علبة الأصداف" و"سياج الورد" و"مدينة الأحلام".. كلها مفردات تشي بالخوف على شيء ما والرغبة في حفظه بمكان مأمون والعيش في “حلم” أو جنة مفقودة.

ثمة رابط ثالث شديد الوضوح هو الانحياز للمرأة أو بشكل أكثر دقة الانحياز "للإنساني" بصفة عامة، لكنها ربما اختارت المرأة لأنها الطرف الأضعف في معادلة الوجود البشري. فهي التي تظهر عليها بشكل أكثر وضوحا، خسائر الهزيمة وآثار الصدمة عندما تكون في موقع الضحية. إنها الكائن الأقل مناعة والأكثر حساسية وعرضة للكسر.

وباستخدام مفردات عذبة، تعالج المجموعة علاقات إنسانية شديدة الرقة، لا تجرحها الأشواك، بل يجرحها حتى الحرير، عن علاقة الأم بابنها في القصة الأولى "لحظة فارقة".. وحرب المادة على المشاعر وطغيانها حتى على أسمى الروابط.

القصة الثانية بعنوان "حنين" لموقف إنساني لا يشذ ولا يختلف عن سياق المجموعة.. رجل يحن إلى المكان الذي كان يلتقي فيه حبيبته ويلقي بها القدر في مصادفة عجيبة.. لحظة لقاء وفراق سريعة قابلة لأن تحدث في حياة أي إنسان.. مجرد نظرات خاطفة تفجر ملايين المشاعر والأحاسيس.. جسدتها الكاتبة ببراعة في صفحة واحدة من صفحات الكتاب.

تنتقل المجموعة لسيدة تفكر في صديقتها القديمة التي فرقت بينهما السنون.. تتمنى لو تعانقها أو حتى تسمع صوتها.. وعندما عثرت عليها صدفة هرولت لتصطدم بمصافحة شديدة البرود.. صفعة أخرى للوجدان وكأن الكاتبة تصنع من القلوب الكسيرة بيتا في مجموعتها القصصية وتسميه (علبة الأحلام).

وفي "وشوشات روح" تبتدر الكاتبة الفصل بختام قصة في عالم خيالي لحبيبين تجمعهما واحة خرافية أسمتها مدينة الأحلام حيث “أشرقت الشمس وبسط الصباح رداءه الأبيض.. حولت عينيها إليه تخبره كم كانت تفتش عنه في الأروقة وملامح الغرباء”، أما هو فقد نظر إليها وقال "أنت يا أيقونة الروح إن كنت قد فتشت عني في ملامح الغرباء فقد فتشت عنك بين طرقات المدن وسطور الكتب وعلى أجنحة الفراشات.. حضورك حلمي الذي تمنيته حتى تجاوزت الأربعين.. لست أدري يا حوريتي كيف يمكنني أن أبقيك لؤلؤة مكنونة في صدفة تائهة لا يعرف سرها غيري".

إنها كاتبة لا تبالي بقواعد وفنون القصة القصيرة بقدر ما تهتم بالإنسان.. تحطم كل قواعد السرد الأدبي وجمالياته، لكي تنتصر للفكرة والشعور فتنساب الكلمات بين دفتي المجموعة في نقاء بديع كأنها أخذت على نفسها عهدا بأن تكتب للمتعة وللإنسان ولا شيء آخر.

وعلى عكس طبائع البشر في الحياة اليومية يبدو الإحساس في قصص المجموعة موازيا للسلوك في النقاء والوضوح..

تجد نفسك في عالم المجموعة القصصية ستحب شخوصها، ستفرح معهم وتبكي معهم، ستتعاطف مع الكاتبة الصحفية ذات الطموح وستعشق المرأة الأربعينية التي خذلها حبيبها من العالم الافتراضي في أول لقاء وتركها وانصرف.

وربما تغفر رشاقة الأسلوب وعذوبة المفردات ونبل العاطفة للكاتبة تسطح الزمن في الرواية واستخدام الحلم ككيان مكتمل الوضوح في عالم مواز عادة ما تشوبه الضبابية في الواقع وفي الأدب.

قدرة الكاتبة على الزج بك في تفاصيل عالمها تجعل من المستحيل عليك الخروج منه دون انطباع، دون موقف، دون تحيز للقلوب الكسيرة وإن طغت النزعة للمثالية والدعوة الصريحة للفضيلة حتى لتخشى أحيانا من أن تتحول الكاتبة إلى داعية إصلاحية.

في القصة التي تحمل عنوان "تفاصيل ألوان" تعلن على لسان بطلتها أنها تعشق الأبيض في "قلادات الفل في الأروقة والطرقات.. زهور الياسمين.. الحمامات البيضاء.. السحاب والثلج والحليب والشموع"، ثم تزول كل هذه البهجة بمشهد فتاة عشرينية ترقد على سرير المرض في حزن وانكسار.

القصة تعيد للأذهان قصيدة أمل دنقل "ضد من" التي يرثي فيها نفسه بمستشفى معهد الأورام.. "في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، لون الأسرّة، أربطة الشاس والقطن، قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن.. كل هذا البياض يذكرني بالكفن".

تضم المجموعة 14 قصة وصدرت عن دار أفاتار للطباعة والنشر.