علي مامو من النغمات الثابتة إلى النغمات الموجية الموحية

الأرضية الصلبة التي يكثف عليها الفنان التشكيلي علي مامو تركيزه بتراكماته وبصياغاته المختلفة تجعله يقترب من الذات الإنسانية في أدق مفرداتها وفي إنبساطها وإنطوائها وفي ألوانها وأشكالها.

كان هاجسه السفر الدائم بين الألوان، فهي بقايا الروح في خارطة الحياة، يبحث عن شيء لا يعرف ماهيته، ولا عنوانه، فما يعرفه علي مامو (الدرباسية - 1972) أنه في مساء ما وبسرعة التجوال في شوارع هذا الكون الأصغر من قلب إمرأة أو قلب رجل غادره الحب، إختبأ هذا الشيء بين حديقة ألوان، فما كان منه إلا الغوص في نسغها الذي يجري فيه علّه يقبض عليه متلبساً بفيضان متدفق بجمال يحمل كل مشروعية بحثه.
 أقول كان هاجسه أن ينفض الغبار عن روحه المنتمية إلى الشرق بكل ألوانه، فدرس في مركز الفنون التشكيلية بالحسكة (1987 - 1990) ، ثم إنتسب إلى معهد الفنون في المدينة ذاتها ليتخرج منه عام 1992، و يعود إليه مدرساً عام 2013، فرغبات البحث عن اللحظات المؤثرة في شغفه باللون لم تهرب من بين أصابعه، بل لم تهدأ، فلا مخرج أمامه إلا حمل دفئه ونقائه قبل أن يرهقهما نحيب شماله، وصقيع زمكانه.
 فيستطرد بهما في أشكال تم تكوينها منذ البدء كي تتماثل مع موضوعات وجدها في زمانه الخاص و في مكانه الخاص وكي تحدث المتعة التي يميل المرء إلى الإمساك بها والتعلق بما تتركه من إنفعالات التي هي بمنزلة تعبيرات لا تعني بالضرورة أنها ملزمة بالحضور حتى تبدأ بالتحريك لتلك العواطف التي لا تنتظر من يوقد حريقها، بل مرتبطة بالطبيعة الداخلية لها وكأنها متقدمة على فترة زمنية يخشى أن يلحقها النسيان. أقول كي تحدث المتعة التي يميل المرء إلى الإمساك بها لا بد من توافر مساحات لها عوالمها من هواجس مشتعلة تمتد جذورها في معظم طروحاته، ولا ترفض الإنعتاق من أحلامه وآلامه ، والتي تشكل بمجموعها ملامح لتربة صالحة للتعامل مع طقوس لونية تحمل رؤيته هو، وهو متفهم لكل ذلك وهذا ما يدفعه إلى مباغتة تلك المساحات بتشكيلات لونية تحتفي بنهوضها وحضورها، وبإندفاعاتها وإيقاعاتها، والتي ستشكل هالات واسعة من موضوعات وتنقلات مندرجة ضمن مشهد بصري كل ما فيه منشغل بمعطياته الخاصة .
علي مامو منسجم مع ألوانه بكل مناخاتها، يثير فيها بكل توقعاته وخبراته، وتثير فيه بكل توتراتها وإدراكاتها، يستجيبان معاً للضربات الإيقاعية المتكررة، يتمكنان من آليات التوقع، لا يحدث الإشباع فالمدى داخل كل منهما (الفنان/الألوان ) تركيب موسيقي مزود بحصيلة معارف فنية ليست مجرد إنفعالات موسيقية فقط تتحرك في أكثر من إتجاه، بل تآلفات لحنية بجرس مميز لعمليات التحول من النغمات الثابتة إلى النغمات الموجية الموحية بنظام من التوافق الهارموني وكأنها ترجىء عملية الإشباع التي كادت أن تتحقق إلى حلول مرحلية جديدة.

 وهذا يعني أنها لم تعد مُلكا لنفسها بل تبعاً لمؤثرات بصرية ونفسية تزحف بإتجاه أكثر من مدخل وأكثر من مخرج وبيقظة قد تحملها إلى ضفاف هادئة، لا دوائر مغلقة فيها، ولا سلطة الذات التي يمارسها الفنان على إمتداد خلقه، محاولاً إيجاد هدنة طويلة الأمد ما بينها، فمجال خوضه لخارطة الوصول يتطلب منه تجاوز الأشكال غير القادرة على الإيحاء بشيء ما.
 فممارسة الرشاقة لوحدها مهما كانت ذكية لا تكفي، فلا بد من التوازن بين مكوناته و مفرداتها الفنية، هذا التوازن هو الذي سيأخذ بريشته إلى بحيرة غير صاخبة، كل ما فيها توحي بالهدوء بما فيها الإنفعالات التي تلد في رحمها، وهذا يدفعه بالضرورة إلى اللعب باللون وتدرجاته، أو تفريخ لون من لون آخر بإحساس أمازوني يختزل الحالات الولودة بحركاتها وفراغاتها.
 ويختزن اللحظات الساكنة والمتمردة معاً، حتى يكون النتاج خصباً ومتفرداً بثماره وما تحمله من نكهات، دالة على هذا التوازن لا كتفسيرات لفكرة المحاكاة، بل كعمليات تخيلية فيها تتماثل أكثر من شيء، فلا بد من التعديل والتغيير فيها دون أية حاجة لردة الفعل الحساس مع ضرورة الإشارة إلى الإرتدادات الكثيرة بين الذات والموضوع.
 ومن ثم بين بدائية غير منظمة قد تمكنه الإقتراب من بداية جديدة،و بين خبرة وتعبير بهما يتحالف مع تصوراته الجمالية، بل قد يسيطر عليها وهذا ما لا يبقيه حيادياً أمام القضايا الجمالية تلك التي يشتغل عليها بوصفها قضايا معرفية وإنسانية تطرح لا كرغبات سريعة قد تفقد قيمتها إذا حولت مجراها، بل كتدفقات دائمة لا يمكن كبحها مهما كان التعامل فيما بينها، وهذه إحدى أهم المؤشرات إلى أن الإنسان هو الحياة ، بإحساسه و إنفعالاته، بقيمه وحرصه، فهنا ينبغي الممارسة بثراء مهما كانت المساحات التي عليها تجري الفعل الإبداعي واسعة.
 فالأرضية الصلبة التي عليها يكثف مامو تركيزه بتراكماته، وبصياغاته المختلفة يجعله يقترب من الذات الإنسانية في أدق مفرداتها، في إنبساطها وإنطوائها، في ألوانها وأشكالها، محققاً توازناً مدهشاً ما بينها من جهة، وما بينها و بين تلك الحركات المتداخلة والمسكونة بمخزون زمني ينفذ إلى عمق الروح الممتلىء بإنتماءات وهواجس مكانية لا يمكن أن تمنح الإحساس غير تدفقات من الحيوية تلامس فعله الجمالي والإنساني معاً من جهة ثانية .