عماد عبداللطيف يؤكد أن تطور التقنية أسرع من تطور الخطاب

الباحث المصري في تحليل الخطاب: العلاقة بين الخطابين الديني والسياسي متجذرة في مجتمعاتنا العربية منذ آلاف السنين.
التصور الشائع يربط البلاغة بسياقات محددة، ويجعلها مفارقة للخطاب اليومي، ومن ثم يرفض ويقاوم الدعوة لدراستها بوصفها خطابات بليغة أساسًا!
التحديات التي تواجه العالم العربي في الوقت الراهن هي الأكبر خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل

بمناسبة حلوله بجامعات المغرب ننجز الحوار التالي مع الدكتور عماد عبد اللطيف أحد أعمدة تحليل الخطاب السياسي والبلاغي على الصعيد العربي والدولي 
•    د عماد: ما السياق العلمي  الذي تأتي فيه زيارتكم للمغرب؟ هل ستتولون الإجابة عن بعض الأسئلة الفكرية العالقة لحد الآن والمرتبطة بازمة الخطاب السياسي العربي مثلا؟
-    ألبي في زيارتي الحالية للمملكة المغربية دعوة ثلاث مؤسسات أكاديمية مغربية عريقة للمشاركة في فعاليات علمية. المحطة الأولى هي جامعة محمد الخامس بالرباط؛ فقد نظم قسما اللغة العربية واللغة الإنجليزية بكلية علوم التربية محاضرة عامة تتناول مشكلات تدريس البلاغة في الجامعات العربية. وقد شارك في الندوة طلاب الماجستير والدكتوراه، وأعضاء هيئة التدريس بالقسمين، وقدمها الدكتور أحمد الشارفي، أستاذ اللسانيات الاجتماعية بجامعة محمد الخامس، الحائز على جائزة المغرب للكتاب العام الماضي.
المحطة الثانية هي جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، ممثلة في وحدة البلاغة وتحليل الخطاب، ومخبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية، الذي تحتضنه كلية الآداب والعلوم الإنسانية. فقد نظمت الجامعة يومًا دراسيًا حول أعمالي في تطوير البلاغة وتحليل الخطاب، يتضمن جلسات تعريفية وعلمية. وقد أعد ستة من طلاب المخبر وطالباته بحوثًا متنوعة في كتاباتي حول تحليل الخطاب السياسي، وبلاغة الجمهور، وقراءة البلاغة القديمة، وتجديد البلاغة عمومًا. بعض هذه الدراسات محاولة لاستثمار مقاربات تحليل الخطاب السياسي في النظر لخطابات سياسية راهنة في المغرب وخارجها. ويشرف على هذا اللقاء العلمي أستاذتا اللسانيات وتحليل الخطاب المرموقتين الدكتورة لطيفة الأزرق، والدكتورة رحمة توفيق.

المزج "السلبي" بين الخطابين الديني والسياسي مسؤول عن كثير من تأزمنا السياسي الراهن في العالم العربي

المحطة الثالثة في جامعة مولاي سليمان ببني ملال؛ حيث أشارك الزملاء في وحدة البلاغة وتحليل الخطاب فعاليات مؤتمرهم السنوي، المخصص هذا العام لاستكشاف أوجه التلاقي والاختلاف بين البحث البلاغي الراهن في تونس والمملكة المغربية. وأقدم في المؤتمر بحثًا حول المدرسة البلاغية الأكثر رسوخًا في المملكة المغربية في الوقت الراهن؛ وهي مدرسة محمد العمري في البلاغة العامة، وذلك من خلال تقديم مراجعة نقدية لكتاب سؤال البلاغة للدكتور إدريس جبري، رئيس تحرير مجلة "البلاغة وتحليل الخطاب"، وأحد أكثر البلاغيين العرب نشاطًا في خدمة البلاغة العربية في السنوات الأخيرة. 
•    ينهض مشروعكم الفكري في تحليل الخطاب على مقاربة البعد الواقعي وتحليل الجانب الملموس في البنيات الخطابية العربية، ومنها الميدان والجمهور والتصفيقات. هل هذا انزياح عن الثابت النظري الذي ظلت الدراسات العربية ترتهن به أم ثورة منهجية في أساليب التحليل؟
-    منذ اشتغلتُ في الجامعة قبل أكثر من عشرين عامًا، أدركتُ أن قَدَر البحث العلمي في مجالات البلاغة وتحليل الخطاب يجب أن يكون وثيق الصلة بالحياة اليومية للبشر الذين يعيشون خارج أسوار هذه الجامعة. لذا دافعتُ بقوة عن دراسة نصوص الحياة اليومية وخطاباتها. وحاولتُ تطوير توجه علمي مخصص لدراسة استجابات الجمهور في سياقات التواصل العمومي، ووجهت اهتمامي للمنتوجات الخطابية للجماعات المهمشة، والأنواع المستبعدة في البحث العربي. 
وبالطبع فإن هذا التوجه نحو دراسة خطابات الحياة اليومية من قِبَل باحث متخصص في دراسات اللغة العربية بالأساس يُعد انزياحًا عن الثابت النظري بالفعل. ودعني أعبر عن إعجابي بطريقة صياغتك للأمر على هذا النحو. فالدراسات العربية تكاد تتمحور حول النصوص العليا؛ ممثلة في النصوص المقدسة والأنواع الأدبية "الراقية"، مثل الشعر والخطابة ...إلى آخره. وتتكئ على أن شرف العلم يتأتى من شرف المادة التي يدرسها، وأن حقلا معرفيًا مثل البلاغة لا يمكن إلا أن يدرس نصوصًا يُتفق على أنها بليغة؛ وهي النصوص العليا السابق الإشارة إليها. والانزياح عن هذا الثابت، ومقاومته لم يكن أمرًا يسيرًا. ولعل أحد أكثر الأسئلة التي وجهت إليّ هي: أين تكمن البلاغة في تعليقات الفيس، أو التغريدات، أو لافتات الشوارع ...إلى آخره؟ لأن التصور الشائع يربط البلاغة بسياقات محددة، ويجعلها مفارقة للخطاب اليومي، ومن ثم يرفض ويقاوم الدعوة لدراستها بوصفها خطابات بليغة أساسًا!
علاوة على ذلك، نحن بحاجة إلى تطوير عدة منهجية أكثر فعالية في تحليل خطابات الحياة اليومية. إذ يجب ألا ننسى أن قواعد علم البلاغة استُمدت من نصوص مفارقة للخطاب اليومي، ومن ثم، فإننا بحاجة إلى إعادة استكشاف لهذه القواعد، وإلى أدوات منهجية متطورة لتحليل هذه الخطابات. 

emad
الوسائط الجديدة تحتاج إلى رسائل وخطابات جديدة

•    تعيش المجتمعات العربية أزمة خطاب سياسي وديني وثقافي: في تصوركم، ما أسباب ذلك؟ وما الحل؟
-    أتفق معكم تمامًا في هذا التقييم لوضعية الخطاب في العالم العربي الراهن. وللأسف فإن التحديات التي تواجه العالم العربي في الوقت الراهن هي الأكبر خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل. هناك بالطبع تجليات شتى لهذه الأزمة؛ لعل أبرزها هو شيوع خطابات التناحر، والتمييز، والتعصب، والتخوين، والإسفاف، والإرهاب أيضًا. وبالمثل فإن أسباب هذه الأزمة متنوعة ومتشابكة؛ أهمها – في رأيي - يرتبط بنوع التعليم الذي يخضع له الدارسون في العالم العربي، الذي لا يطور فيهم – غالبًا - قدرات التفكير الناقد التي تمكن من المراجعة والتحليل والمساءلة والتقييم. فيسهل التلاعب بالأفكار والعقول. 
كذلك أظن أننا أمام موجة جديدة من موجات الاستعمار المقنع، وإنجاز هذه الموجة مرتبط بالتأثير في العقل الجمعي العربي بواسطة الخطابات العمومية، بهدف إحداث قبول طوعي للرضوخ لهيمنة قوى مستبدة، لا تعمل لصالح شعوبها في بعض البلدان العربية، وبخاصة تلك التي هبت عليها نسائم الربيع العربي، ثم تحولت هذه النسائم إلى رياح جليدية. كذلك فإن التطور الهائل الحادث في آليات إنتاج الخطاب العمومي، رافقه ظهور أنواع وخطابات جديدة، ومن الطبيعي أن الوسائط الجديدة تحتاج إلى رسائل وخطابات جديدة، وعادة فإن تطور التقنية أسرع من تطور الخطاب، لذا نجد هذه الأزمة التي أشرتم إليها.
أما فيما يتعلق بالحل، فالإجابة الأساسية هي التعليم. التعليم هو القادر على انتشالنا من وهدة التمييز والعنصرية والتلاعب والقهر. ولا يمكن أن ينشأ تعليم جيد في مناخ يفتقد إلى الحرية، أو يفتقد إلى تلبية الحاجات الأساسية للبشر، وبخاصة الحاجة إلى الأمن. فهذه شروط أساسية، يتيح توفيرها فتح عالمنا على حلم جديد.
•    أمام تدهور وتراجع الإنتاج الثقافي العربي هل ترون أن العقل العربي في حاجة لإعادة النظر في آليات إنتاجه لأنماط الخطاب؟ هل هي أزمة خطاب أم أزمة جمهور؟
-    يجدر بنا في البداية الإشارة إلى أن العالم العربي الآن يُنتج فكرًا وإبداعًا في مجالات شتى أكثر مما كان ينتجه في أي وقت مضى. ربما يمكن تفسير هذا تفسيرًا ديموغرافيًا بسيطًا؛ فالعالم العربي ينمو سكانيًا بمعدلات عالية، وكل يوم يضاف إلى رصيد طاقاته البشرية الكثير. ويجب التنويه أيضًا بأن هناك إنتاجات ثقافية أصيلة متميزة، تستحق كل تقدير. لكن مع ذلك، ما زلنا مقارنة بمناطق ودول أخرى أقل كمًا وكيفًا. ربما يكمن المشكل في غياب المؤسسية، وهيمنة العمل الفردي. فعلى سبيل المثال، إذا نظرت إلى سوق النشر الأدبي والأكاديمي في العالم العربي، ستجد الكثير من الفوضى، وغياب المهنية، وفي بعض الأحيان غياب الأخلاق. والنتيجة هي معاناة الكاتب والكتاب معًا. الأمر نفسه يظهر في أنواع أخرى من الخطابات الثقافية التي نادرًا ما ترعاها مؤسسات راسخة تعمل وفق تقاليد، وأخلاقيات مهنية شفافة ونزيهة. أما الجمهور، فأنا دومًا منحاز إليه؛ فلدي ثقة كبيرة في أن الخطاب الثقافي الأصيل، سيجد جمهوره حتمًا.
•    تعتمد الخطابة العربية على أدوات للاقناع السياسي مستمدة من المرجع الديني وهذا يطرح إشكالا على صعيد استمرار هذا المكون منذ بداية الدولة الاسلامية إلى الآن، علما أن الواقع تجاوز هذه الأطروحات التقليدية المحافظة في الإقناع، بتطور وسائل الاتصال والتواصل وتقدم العلوم. هل نحن ماضون إلى تكريس المزيد من التبعية والتخلف في إنتاجنا للخطاب العربي؟
-    العلاقة بين الخطابين الديني والسياسي متجذرة في مجتمعاتنا العربية منذ آلاف السنين. ويجدر بنا أن نتذكر أن فكرة الحاكم الإله، تمتد بجذورها في حضارات بلاد الرافدين ومصر القديمة إلى أكثر من ستة آلاف عام. وقد أدرك السياسيون أن الخطاب الديني يمنحهم قدرات هائلة للتأثير على الناس، أهمها في رأيي القدرة على فرض الصمت. وقد حللتُ التناص بين الديني والسياسي لدى سياسيين متعددين، وأستطيع القول إن هذا التناص نادرًا ما يستدعي القيم الإيجابية في الدين، بقدر ما يستهدف بناء صورة رمزية للحاكم تجعله "ظلاً" للإله. ولعل هذا المزج "السلبي" بين الخطابين الديني والسياسي مسؤول عن كثير من تأزمنا السياسي الراهن في العالم العربي.