عندما تموت الصحف، من سيملأ الفراغ

المجتمع من دون صحيفة مركزية قوية سيكون مفتقدا للقيادة وإلى جزء كبير من هويته. فالصحف إحدى أهم الوسائل التي تربطنا كأفراد ببعضنا البعض.
على المجتمع ألا يفقد الصحافة المثالية كأهم صوت مؤثر له على عمل الحكومات
لا يمكن أن نتخيل أن طاولة الزعماء والملوك والرؤساء تخلو من الصحف صباح كل يوم!

بات هذا السؤال قائما بقوة حيال الأزمة الوجودية التي يصارعها قطاع الصحافة في العالم، مازالت الأخبار السيئة القادمة من شتى دول العالم عن مصير الصحافة مستمرة ومتصاعدة، فالإيرادات تتلاشى بينما تنتظر النفقات من يسددها، ولا شيء بيد إدارة الصحف يمكن أن تقوم به. مع ذلك تستمر لامبالاة الحكومات حيال فشل أغلب الحلول المقترحة لإنقاذ صوت المجتمع المثالي، الأمر الذي وصفه جويل كابلان أستاذ الصحافة بجامعة سيراكيوز في نيويورك بالأوقات الحزينة التي مرت على الصحف على مدار السنوات القليلة الماضية، لكن ضربة كورونا ربما كانت الأسوأ على الإطلاق. فما يواجه مصير الصحافة وفق التوقعات والتحذيرات لا شيء مقارنة بما يحدث بالفعل. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت وسائل الإعلام الأخرى قادرة على شغل الفراغ الذي تتركه الصحف؟

صدر خلال الأسابيع الماضية عن جامعة كولومبيا كتاب جديد للصحافية مارغريت سوليفان، كاتبة العمود في صحيفة واشنطن بوست بعنوان “شبح الأخبار: الصحافة المحلية وأزمة الديمقراطية” اقترحت فيه على المجتمع ألا يفقد أهم صوت مؤثر له على الحكومات والتفريط في صحافته المحلية.

ترى سوليفان، وهي محقة على الأقل وفق مفهوم الصحافي المخلص لجوهر المهنة، أن ما قامت به الصحف على مدار عقود طويلة من محاسبة الحكومات وتقليل الفساد في أروقتها، لا يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام الأخرى.

هذا لا يعني -وفق مارغريت سوليفان- أن الإذاعات أو المحطات التلفزيونية لا تقوم بدورها الاستقصائي المتميز والمؤثر، لكن الصحف على وجه الخصوص كانت حاضرة على طاولة اجتماعات الحكومات والوزارات والشركات الكبرى، وبقي تأثيرها مستمرا في القضايا الكبرى. ولا يمكن أن نتخيل أن طاولة الزعماء والملوك والرؤساء تخلو من الصحف صباح كل يوم!

وبعدها يمكن لنا أن نتخيل تأثير غياب هذه الصحف بوصفها قوة صلبة تمنع دوران دولاب فساد الحكومات التي ستفعل ما يحقق مصالحها الأنانية عندما لا توجد صحف يمكن أن تعترض طريقها.

بالطبع لا يقتصر تأثير غياب الصحف على الحكومات وحدها، فالتجارب التاريخية علمتنا أن مشاركة المجتمع في تحمل المسؤولية العامة تتراجع بغياب الصحافة، الناس أنفسهم يصبحون أقل إحساسا بوحدتهم الجماعية وأكثر تحزبا وطائفية وقبلية من دون صحافة فعلية بين أيديهم، ويصبح هذا الأمر أكثر خطورة على الدول الديمقراطية التي تخضع للمحاسبة الصحافية بلا انحياز وخضوع.

أو بتعبير ماري بيث إيرنهيردت التي تُدَرّس الصحافة بجامعة يونغزتاون بولاية أوهايو، أن المجتمع من دون صحيفة مركزية قوية سيكون مفتقدا للقيادة وإلى جزء كبير من هويته. فالصحيفة إحدى أهم الوسائل التي تربطنا كأفراد ببعضنا البعض، ونموذج مثالي لتبادل الأفكار والمعلومات.

ولا تخفي سوليفان إحباطها من خسارة الصحف جوهرا مهما في تغطيتها، عندما تختار التضحية بجزء من أعمالها، فلم يحدث مثلا أن تخلت أي من الصحف في أزمة التقليص عن تغطيتها الرياضية، لكن عادة ما تتم التضحية بما يمس الرأي والفكر لدى القراء، الأمر الذي يهدد بفقدان المجتمع لصناعة الرأي وتراجع الارتقاء إلى النموذج المثالي الذي تطمح إليه صناعة الأفكار. هذا لا يعني أبدا عدم أهمية التغطية الرياضية بالنسبة إلى المجتمع.

تقول مؤلفة كتاب “شبح الأخبار” الذي كان موضع احتفاء غير مسبوق في وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية خلال الأيام الماضية “عندما يتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوما بعد آخر، الصحافيين بعدم الأمانة وأنهم مجرد حثالة وأعداء الشعب والحقيقة، لا يمكن أن يمر مثل هذا الكلام الصادر من رئيس الدولة من دون تأثير ضار على الصحافة”.

ولا تكتفي رسالة كتاب سوليفان بإنقاذ الصحف من موتها، على أهمية الحاجة الماسة لذلك، بل تدعو إلى العمل على توفير الصحافة بأي شكل من الأشكال، والذي قد لا تكون له علاقة بالصحافة المطبوعة بشكلها التقليدي المعهود، بل بإعادة صناعة نفسها بطريقة ما، على ألا تقطع مع تاريخها.

لا يمكن في كل الأحوال، ونحن نتحدث عن بدائل الصحف في أزمتها الوجودية، أن نقلل من شأن العديد من المواقع الإلكترونية المهمة والمثيرة للإعجاب بوصفها أفضل أمل لمستقبل الصحافة خصوصا غير الربحية منها، لكنها لا يمكن اليوم ولا في المستقبل الرقمي للحياة، أن تشغل مساحة تأثير الصحف عبر تاريخها، ليس لاعتبارات متعلقة بفكرة الحنين إلى الماضي وحدها، بل بطبيعة قوة التأثير، فكل الدراسات العلمية أثبتت أن قوة القراءة المباشرة على الوعي تفوق بكثير التصفح على الأجهزة الرقمية، مع أن هذه الأجهزة معلم صبور، إلا أن صبر الدماغ يتفوق عليها في الاستيعاب والتفكير عندما يركز في القراءة التقليدية.

يعبر فيليب نابولي أحد الباحثين الذين أعدوا دراسة عن تأثير الصحف المحلية نشرتها جامعة ديوك الأميركية مؤخرا، عن تفاجئه بالنتائج التي توصلت إليها الدراسة بالقول “عندما تبحث عن تقارير محلية فعلية أصيلة تلبي الحاجة إلى معرفة معلومات حرجة، لا تزال الصحف إلى حد بعيد، هي المصدر الأساسي”.

ويطالب نابولي أستاذ السياسة العامة في جامعة ديوك، صانعي السياسات ومحبي العمل الخيري وغيرهم من الممولين بإعادة تقييم أولوياتهم، والتي تميل إلى التركيز على المنظمات الإخبارية الرقمية فقط في المجتمعات.

قد يبدو الأمر وكأن وضع قطاع وسائل الإعلام المطبوعة لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك. لكن الخسارة ستكون أسوأ ليس لمشغلي هذا القطاع وحدهم، بل سيكون الخاسر الأكبر هو المجتمع عندما يفتقد إلى ديمقراطية حرة من تبادل المعلومات، والأكثر من ذلك خسارته لمن يراقب الحكومات كي يمنع فسادها، لأن الصحافة النموذج المثالي، ولا يمكن لنموذج آخر أن يعوض تأثيره.