'غيمات بيضاء.. ما أبعدها' سيرة الذات والمكان

القيمة الفنية الجمالية في الرواية تبدو جليّة في قدرة الكاتب عبدالقادر بن الحاج نصر في جعل المتلقي يعيش لذة من يرى نفسه في غيره، رغم اختلاف المرجعيات والزمان.

كثيرا ما نقرأ روايات يصنّفها أصحابها ضمن دائرة التخييل وينسبونها إلى جنس الرواية في حين يكتشف القارئ عديد المؤشرات الدالة على انضوائها في خانة أدب الذات بعد توفر قرائن عديدة على هيمنة البعد السيرذاتي فيها. وقد أقرّت عديد الدراسات بأهمية دور القارئ/المتلقّي في تحديد جنس النصّ خاصّة حين يلتبس المرجعي بالتخييلي وتغدو الذات في الخطاب موضوع تأمّل. فقد رأت جليلة الطريطر أن "القارئ وحده في أدب الذات يملك القدرة على التسليم بمصداقية المرجع وتفعيله أو تعليقه والطعن فيه ". (جليلة الطريطر: أدب البورتريه ص 131 ) وأقرّ محمد آيت ميهوب أن "لا وجود لرواية سيرذاتية خارج قناة التلقّي" (محمد آيت ميهوب: الرواية السيرذاتية في الأدب العربي المعاصر ص90).

نستعيد هذه الآراء ونحن نقرأ "غيمات بيضاء.. ما أبعدها" للكاتب الأديب عبدالقادر بن الحاج نصر (دار نقوش عربية.ط1. تونس 2023) وقد أعلن الناشر على غلافها اندراجها في جنس الرواية. غير أن هذا الميثاق القرائي سرعان ما يتهافت عند مباشرتها إذ يتبدّى فيها بيسر التأرجح بين الإحالات المرجعية والنزوع إلى التخييل، فإذا نحن إزاء حيرة التصنيف، فلا هي سيرة ذاتية نظرا لغياب ميثاق سيرذاتي صريح يعتبر ضروريا لإقرار اندراجها ضمن هذا الجنس، ولا هي رواية لما يلحظه المتلقّي فيها من إشارات وقرائن واضحة تحيل على المرجع وعلى حياة الكاتب تحديدا وسيرته، بل هي مزيج من هذا وذاك. مما يرجّح اعتبارها رواية سيرذاتية إذ تتوفر فيها أهمّ شروط هذا النوع من كتابات الذات كما أقرتّها الدراسات الحديثة.

لذا يمكننا التساؤل: كيف تسلّلت الذات عبر الذاكرة الشخصيّة إلى "غيمات بيضاء" وما هي أشكال حضورها؟ كيف أسهمت الذاكرة المرجعية والأمكنة خاصة في بناء عوالم السرد التخييلي؟ كيف احتمى الكاتب بمظلة الرواية واختار مراوغات التخييل وهو يستعيد تجربة حياتيّة عاشها وتجارب حميمة خزّنتها الذاكرة؟

يعتبر الميثاق السيرذاتي محدّدا أساسيا لجنس السيرة الذاتية وذلك انطلاقا من إعلان صريح أو ضمنيّ عن التطابق بين الراوي والكاتب والشخصية (فيليب لوجون). وفي غياب التصريح باسم العلم المحيل على الكاتب، ومع توفر مؤشرات نصية أو قرائن أخرى تحيل على المرجع يتحوّل النص إلى رواية سيرذاتية. هذا الميثاق السيرذاتي غائب في كتاب عبدالقادر بن الحاج نصر "غيمات بيضاء.." إلا أن القارئ لا يعدم ملاحظة العديد من المؤشرات الدالة على هويّة المؤلف. منها إغفاله تسمية البطل/الشخصية التي تلتقي غالبا في مسيرتها مع سيرة المؤلف. وهي مسيرة نجد أصداءها متفرقة في كتابات أخرى له "عاشق وطن – حديقة اللوكسبورغ" ونجد أثرها بيّنا في ما ينشره الكاتب من حوارات وما يعقده من لقاءات فلا ينكر صاحبها هذا التماثل بين التخييل في خطابه والمرجع، ولا يتنكر لأحداث عاشها منها مرضه صغيرا وموت أمّه في سن مبكرة ومواصلة تعليمه في قفصة ثم في تونس وانخراطه في نادي القصة ومشاركته في الإذاعة التونسية... إلى حضور مكثف للمرجع في الكتابة عبر أسماء أعلام عاصرها المؤلف واحتكّ بها مع استثماره بعض الأحداث التاريخية.

محورية الشخصية وجماليات التشظي:

يستعيد الراوي - وهو الشخصية المحورية في "غيمات بيضاء "- ذكريات الطفولة الأولى وبدايات الشباب في القرية ثم في المدينة. يتابع حركة الذاكرة في دورانها حول ذاتها، في تيهها بين تعرّجات الماضي ومنحدراته، تتقلب بها الأحداث فينجذب إلى بعضها ويتهرّب من بعضها الآخر.. تتحكّم المشاعر والأحاسيس في اختيار اللقطات والمشاهد ومحاصرة اللحظات الهاربة، تعمد أحيانا إلى إعدامها ودفنها بين بياضات النص وفراغاته.

وتبدو المشاعر والأحاسيس نقطة ارتكاز أساسية في توليد المشاهد والأحداث. وهو ما يتناغم مع قول تادييه "الذكرى الوحيدة التي تبقى عبر السنين ومع تغيرات شخصيتنا هي الذكرى الانفعالية، وهي ليست ذكرى انفعال معيّن بل إعادة إحياء لهذا الانفعال بالذات" (جمال شحيّد: الذاكرة في الرواية العربية ص 42).

يمعن الراوي/الشخصية في "غيمات بيضاء" في التقاط الأحاسيس المتضاربة المتصارعة في لحظات الخوف والعجز والحزن والشعور بالنقص أكثر من أيّ انفعالات أخرى.. ليكون التبئير على حالة الصراع بين المشاعر المتناقضة ترتدّ إليها الذاكرة وتتوسع في رسمها واستعادتها أكثر من الأحداث التي ولّدتها.. وكأنها تستلذ طعم المرارة والألم وهي تستعيده علّها تجد الشفاء في البوح: "طوال الطريق بكيت بلا دموع، اعتصر الحزن صدري، تكوّرت في الكرسي أكتم الوجع وأحدّق في الفضاءات من حولي" ص63. يستعيد الراوي اثر حدث بعيد هو الإعلان في برنامج إذاعي عن فوزه بالجائزة الأولى بعد مشاركته بكتابة قصّة فيصرخ مخاطبا ذاته "يأيّها الشقيّ، أيّها الحلوف، يأيّها التافه الضائع المتسكّع الفاشل المجنون.. ها قد فزت بالجائزة الأولى.. أنت لست أنت.. والذي أعلن عنه فائزا ليس هو.. لا هو أنت ولا أنت هو". ص151

شخصية الراوي في هذه الرواية السيرذاتية مركزية ومهيمنة على العالم الروائي رغم حضور عديد الشخصيات الأخرى المحيطة بها، لكن اللافت هو تعدّد الضمائر التي تحيل على الراوي/الشخصية وتداخلها حتى في المشهد الواحد.. فإذا هي مرايا تعكس وجوه الشخصية المختلفة وصور الذات المشروخة، هي "أنا" الراوي الكهل حينا، و"أنا" الصبيّ أخرى، و"هو" الشاب الشقيّ.. و"أنت" الفتى الضائع.. تتلوّن الضمائر محيلة على شخصية واحدة تتعدّد معها الأصوات وتعيد من خلالها الشخصية تقييم ماضيها وتراجع ذاتها.

يحضرالضمير "أنت" عبر صوت الكهل أحيانا يخاطب الطفل أو الشاب الذي كان في ضرب من الحوار الباطني يرى عبره الراوي وجهه في المرآة وهو يخترع القرين "تمهل أيها المسافر فلم تعد صبيّا .." "الآن لملم نفسك، فقد تبعثرت.. ماذا أعددت للامتحان؟ أتراك موعود بالسقوط؟ ماذا إن تخلى عنك الحظّ؟".

ويبرز ضمير المتكلم "أنا" في عدد من محطّات السرد لكنه يقترن غالبا بلحظات الثقة في النفس ووضوح الرؤية: "سأسير من الآن فصاعدا لا خوف ولا خجل"، "استولى عليّ إعجاب غريب بنفسي". هي الأنا الواثقة التي لا تخجل من ضعفها وهزائمها: "لم أبك. فأنا من صلب رجل يقهر الأرض ولا تقهره.. لم أبك.. ولن أبكي.. لكن دموعا تساقطت كقطرات المطر". "سأسير من الآن فصاعدا لا خوف ولا خجل"..

ويتحول الصوت إلى ضمير الغائب مباعدا المشهد، وكأن الذات تروم رؤية ذاتها في مرآة محايدة رغم التبئير الداخلي: "كم يتألم الصبيّ".. "أحبّ الصبيّ مسيودرموني .." "استعاد الصبيّ الثقة في نفسه".. "أحبّ هذا العالم الغريب"..

ومع تنوع الضمائر المحيلة على الشخصية المحورية يتتالى سرد الأحداث في لقطات متباعدة زمنيا وفي ضرب من التقطيع السينمائي محدثا فجوات وفراغات تحث المتلقي على تخيّلها وملئها.. ولا يمكن تعليل هذه الفجوات بصعوبة التذكر لدى المؤلف ذلك أن التخييل قادر على ردم فجوات الذاكرة "فالمتخيّل السردي ضرب من التحيين المستمرّ للذاكرة.. وقوامه إعادة تنظيم التذكر وتجديد أشكاله ودلالته" (جليلة الطريطر: مقوّمات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث ..ص235) لذا نذهب إلى اعتبار هذا الضرب من التشظّي استراتيجية سردية وتوظيفا لتقنيات كتابة سينمائية ليست غريبة عن عبدالقادر بن الحاج نصر الذي كتب سيناريو عدد من المسلسلات التلفزية، وهي تقوم على لقطات متناثرة متباعدة زمانا ومكانا، توجّهها غالبا وحدة الشخصية وكثافة الانفعالات والأحاسيس. ممّا يجنب الرواية السيرذاتية الكثير من الثرثرة والحشو، ويضفي جمالية خاصة على السرد، حيث تستثير الفجوات السردية في المتلقي خياله وتفسح له مجالا لملء الفراغات ولتعدد التأويلات..

المكان في 'غيمات بيضاء' يتجاوز وظيفته الأولية إطارا للحدث الروائي فيغدو جزءا لا يتجزّأ من بناء الشخصية المحورية ومرآة عاكسة لأحاسيسها وأفكارها وأحلامها

تتراوح في "غيمات بيضاء.. ما أبعدها" جماليات البوح وجماليات الصمت، تنوس بين التعبير عن الذات عارية في صدقها، والتخفي عبر مراوغات التخييل وحيل السرد وتقلّب الضمائر والأمكنة.

ذاكرة المكان/سيرة الذات:

غير أن الذاكرة وإن مالت غالبا إلى استعادة الانفعالات والمشاعر تبقى أساسا ذاكرة مكانية حسب بول ريكور، وما من ذكرى في رأيه إلا وهي ترتبط بمكان ما. وهو ما نلحظه بيسر في "غيمات بيضاء" حيث نشهد كثافة العودة إلى الأماكن القديمة مقترنة بالماضي المستعاد.

المكان عنصر هام في الفضاء الروائي ومكوّن أساسي في هذه الرواية السيرالذاتية، حيث يغدو المولّد الأساسي لدفق الذكريات تنفتح عليه وبه جلّ فصول الرواية، فإذا الارتحال في المكان لا ارتحال في الماضي فقط بل وارتحال في تعرّجات الذات وأعماقها. نلحظ هذا التعلق بالمكان في عتبات الرواية السيرذاتية وخطاب عشق للقرية في الإهداء "لك قدر البحار والصحارى والسهول، حبّا أنكروه عليّ. ومع ذلك أحبّك يا قريتي.."، وفي الجملة الأولى من الفصل الأول "ما زلت أدور حول المكان وحول نفسي" وهي جملة تختزل حركة السرد في كل الفصول.

يتجاوز المكان في "غيمات بيضاء" وظيفته الأولية إطارا للحدث الروائي فيغدو جزءا لا يتجزّأ من بناء الشخصية المحورية ومرآة عاكسة لأحاسيسها وأفكارها وأحلامها، إضافة إلى كونه يسهم في توليد التحوّلات داخلها. ويمكن تلخيص الأمكنة في هذه الرواية السيرذاتية في مكانين محوريين هما القرية والمدينة.

في القرية نرى بيت الطفولة، الركن الأول للدفء الأصلي والفردوس المفقود حسب باشلار باعتباره رمز الحماية، إذ يوفر للإنسان الإحساس بالأمن. غير أن الذاكرة في "غيمات بيضاء" تجعله فضاء الفقد والوحدة والحزن والمرض (موت الأم ..موت الأخ ثم الأخت..) وقليلا ما بدا البيت ملاذا وحصنا. ولا تختلف المدرسة في القرية عن هذا التصوّر للمكان إذ تقترن صورتها بالشعور بالحيف والظلم، فيها يفقد الراوي/الطفل الثقة في نفسه ويتحول حبّ المعلم إلى خوف وكره وانكماش.. تنضاف إلى ذلك عوامل المرض والعجز..

إلا أن الطبيعة في القرية ستكون الملاذ الحقيقي الذي يحتضن فرحة الطفل وصرخات الألم والإحساس بالظلم "ما أجملك يا قريتي. أنت الحصن وأنت الملاذ وأنت الحزن وما تحمل الأيام من نوائب.." ص37. وهي لدى الراوي الشاب والكهل فضاء التأمل والحلم.. وبين رغبة في النسيان ونزوع إلى استرجاع الماضي تبقى القرية فضاء إشكاليا تتنازعه المتناقضات التي تعكس تمزق الذات "استفاقت القرية في خاطري والناس.. من يتذكرني منهم ومنها.. ما أفظع الشعور بأن لا أحد يحبك". ص177

أما المدينة فكانت فضاء اكتشاف العالم واكتشاف الذات، فضاء الانفتاح على عالم الكتب والأدب، وعالم الإذاعة، فيها تولدت أحلام واعدة وامّحت الحدود بين الراوي/الشخصية والآخر، فكان اكتشاف الآخر في أبعاده الأكثر ثراء وإنسانية (الطبيب إبراهيم الغربي) وبدايات قصص العشق (حبيبة في المستشفى).. في المدينة تجاوزت المحبة الإنسان إلى معالم المكان التي تأنسنت. عاش الراوي فيها لحظات التخبط والبعثرة والبؤس المادّي، لكنه عاش أيضا لحظات الانتشاء والثقة بالذات وأحلام النجاح والتحليق نحو أبعد الغيمات..

لا قيمة للمكان في "غيمات بيضاء" خارج تفاعل الشخصية المحورية معه.. المكان "قطعة شعورية وحسّية من ذات الشخصية" لذا كانت رؤية المكان غنائية مشحونة دائما بالانفعالات والمشاعر: "أحبّك يا ساحة العطّارين".. "ها أنا في شارع التاسع من أفريل.. باب سعدون فاتح ذراعيه" ".. في مكتبة العطارين وصدري يعجّ بالأحاسيس كتبت قصتي.. استولى عليّ رعب شديد".. "تنفسّت المدينة وتنفستني"..

لقد رسمت الرواية سيرة المكان وسيرة الذات في تقلباتها في استعارة شعرية جعلت كلّ فصولها سياحة بين الغيمات. (عناوين كل الفصول تحيل على الغيمات) وكأن العالم الذي ترسمه لم يعد سوى غيمات بعيدة في مهب رياح الحياة، تحاول الذات الاحتماء بها حينا أو تستدرّ منها بعض ما يروي عطش الذات في حنينها إلى ماض بعيد، وتروم من خلالها استعادة روح الطفل القابعة في ظلمات الحاضر..

على سبيل الختام:

لقد أتاح عبدالقادر بن الحاج نصر للشخصية المحوريّة وربما للمؤلف نفسه في "غيمات بيضاء.. ما أبعدها" خلق ضرب من الحوار بين الهويّة المرجعية والهويّة التخييليّة، ومكّن الشخصية المحوريّة من تأمّل ذاتها في مرايا متعددة تعدّد الضمائر والأصوات التي صيغت بها، كما أتاح لها تقييم التجربة المعيشة ومراجعتها في تقلب أحوالها. ورغم غياب نزعة أسطرة الذات التي تعتبر ملازمة للرواية السيرذاتية، نكاد نجزم أن مسيرة الشخصية في هذه الرواية السيرذاتية تلتقي مع ما يسمّى رواية التكوين الذاتي، وهي الرواية التي تصوّر "التحولات العاطفية والنفسية والفكرية التي تنتهي بنضج شاب تصقله تقلبات الحياة.. ويمكن أن ينتسب هذا البطل انتسابا مباشرا أو شبه مباشر إلى الكاتب نفسه أو يصوّه في المرحلة التكوينية الأولى من حياته" (جابر عصفور: زمن الرواية، ص 234)

غير أن قيمة "غيمات بيضاء.. ما أبعدها" تتجاوز حتما دائرة الذات في رفضها القناع وبحثها الدائم عن هويتها، وتتجاوز الشهادة على العصر واستلهام الذاكرة الجماعية، إذ تبدو القيمة الفنية الجمالية جليّة في قدرة الكاتب على تقطيع المشاهد واللقطات سينمائيا، وعلى تصوير حرارة التجربة الإنسانية في تقلباتها وآلامها وهواجسها، في عريها وصدقها، وفي جعل المتلقي يجد فيها بعض ذاته، أو يعيش لذة من يرى نفسه في غيره، رغم اختلاف المرجعيات والزمان.