فاروق الفيشاوي.. طائر الكناريا الذي حلق بعيداً

الفنان الراحل كان موهوباً ومبدعاً في التمثيل، وترك فيه إرثاً خالداً من الأعمال التي برع في أداء أدوارها بأستاذية.
طبيعة شخصيته الفيشاوي المثالية والعاطفية هي التي قادته على الأغلب إلى الكثير من النجاحات أو الانتكاسات
الفنان الراحل كان أشبه بطائر الكناريا الذي وضع في قفص قَيّد شخصيته المُتمردة وروحه المشاغبة

قبل أيام مرت الذكرى الأولى لرحيل الفنان الوسيم والممثل القدير فاروق الفيشاوي، بعد صراع مع مرض السرطان الذي هاجمه قبل عام. ورغم أنه قد وعد أصدقاءه ومحبيه بالصمود ومقارعة المرض والتغلب عليه، فإنه للأسف لم ينجح في ذلك ودخل في غيبوبة إنتهت برحيله، ليضيف حلقة أخرى الى مسلسل الرحيل الذي بدأ منذ سنوات لإيقونات مرحلة زمنية أغنَت ذاكرتنا الثقافية والفنية بإبداعها وتركت فيها بصمة لا تمحى مهما طال الزمن.
كان الراحل موهوباً ومبدعاً في التمثيل، وترك فيه إرثاً خالداً من الأعمال التي برع في أداء أدوارها بأستاذية. سواء كبطل مطلق في عز شبابه، حينما كان فتى لا ينازع من فتيان الشاشة، كأدواره في أفلام "الباطنية" و"وحوش الميناء" و"نأسف لهذا الخطأ" و"الكف" و"الأستاذ يعرف أكثر". أو كبطل ثاني، وهو الدور الذي لم يخجل من أدائه والظهور فيه مرات عديدة، حتى يوم كان في عز نجوميته، كدوره في فيلم "المشبوه" مع النجم عادل امام، أو كضيف شرف، حين تقدم به العمر، كدوره في مسلسل "راس الغول" مع رفيق دربه وصديق عمره محمود عبدالعزيز الذي سبقه في الرحيل. 
ما مَيّز الفيشاوي، بالإضافة لموهبته ووسامته وتلقائيته، هو إبداعه بين الحين والآخر بأداء أعمال تلفزيونية كانت مشغولة بحرفية من ناحية صياغة الأفكار والحبكة الدرامية، تناوَلت قيَما إنسانية يبدو أنها كانت شغله الشاغل الذي يؤرقه، والذي ترك أثره على شخصيته في مراحل مختلفة من حياته، فقد جَسّد فيها أدواراً كانت على ما يبدو قريبة من شخصيته العاطفية المثالية اللامنتمية لواقعها والمتمردة عليه وعلى قيمه المتناقضة. أبرزها دوره المفرط برومانسيته في مسلسل "غوايش" مع الفنانة الشاملة صفاء أبو السعود. أو دوره في مسلسل "كناريا" الذي لعب فيه دور رجل حالم كطائر الكناريا، يعشق الإستقلالية ويرفض الوصاية من أحد أياً كان، سواء كمجتمع أو كسُلطة، مما تسبب له بمشاكل معهما. أو دوره مع زميليه صلاح السعدني ومحمد وفيق في مسلسل "الأصدقاء" الذي يتحدث عن قيم الصداقة ومعانيها السامية، وما يمكن أن تواجهه من تحدّيات تكشف مدى صدقها ورسوخها بنفوس الأصدقاء. 
هذا بالإضافة لدور مُمَيّز لعبه بمسلسل عرض في الثمانينيات عن شاب درس العزف على آلة القانون، وواجه بسبب ذلك الكثير من المشاكل مع المجتمع الذي لم يفهمه أحياناً، وكان يخلط بين القانون كآلة موسيقية أو كعِلم لوضع الأسس التي تنظم سلوك أفراد المجتمع، لدرجة تعيينه بوظيفة إدارية لا تتعلق بالموسيقى بل بالقانون، أو كان يَستَهزيء به في أحيان أخرى بسبب نظرته للفن ومن يمتهنه كحرفة، رغم أننا نتحدث عن أكثر مجتمعاتنا العربية حباً للفن. وإذا ربطنا بين هذه الأدوار وما عُرِف عن شخصيته، سنجد بأن اختياره لها لم يكن إعتباطياً، بل أراد أن يبعث من خلاله رسالة إلى مجتمعه، وقد نجح في ذلك إلى حد ما، كما فعل الفنان الأسطورة الراحل محمود مرسي في مسلسلي "أبو العلا البشري" و"العائلة" أو فيلم "حد السيف" مثلاً. "

art
كم هائل من الأعمال الناجحة والمتميزة 

"
طبيعة شخصيته الفيشاوي المثالية والعاطفية هي التي قادته على الأغلب إلى الكثير من النجاحات أو الانتكاسات. النجاحات تمثلت في كم هائل من الأعمال الناجحة والمتميزة والخالدة في سفر الفن وفي نفوس عشاقه. أما الإنتكاسات فأبرزها ربما هي إنتكاسة إدمانه شاباً، وفي عِز نجوميته، للمخدرات بسبب ضغوط الحياة وتناقضات المجتمع التي لم تتحملها شخصيته المثالية الحساسة. أو زيارته في السنوات الأخيرة لسوريا مع مجموعة من زملائه الفنانين، ولقائهم ببشار الأسد، والتي وصفها هو نفسه فيما بعد بأنها كانت خطأ كبيرا. أو وقوعه في فخ هيئة مليشيات الحشد الشعبي في العراق، واستجابته مع مجموعة من زملائه الفنانين لدعوتها لهم قبل سنوات لحضور ما يُسمى بمهرجان الغدير، الذي نظمته هذه الهيئة ذات الأجندة الإيرانية بهدف ظاهره الإحتفال بعيد الغدير، وباطنه الترويج لمنظومتها الهجينة.
كان الفنان الراحل أشبه بطائر الكناريا الذي وضع في قفص قَيّد شخصيته المُتمردة وروحه المشاغبة، ولأن الكناريا لا يصمد في قفصه أكثر من 15 سنة، لم يصمد فاروق الفيشاوي في قفص الحياة وسجن المجتمع أكثر من 67 سنة، ورحل عنه مبكراً بعد صولات وجولات عاشها فيه مشاغباً وثائراً ضد قيَمه وتقاليده. ولهذا ربما لم يتحمل أيضاً قفص الزوجية، رغم موقف الفنانة سمية الألفي الإنساني معه خلال مِحنته مع إدمان المخدرات وتعافيه منها، لكن روح الطائر التي كانت السبب في إنفصاله عنها هي ربما نفسها التي دفعته الى يبقى صديقاً مُخلصاً لها طوال الحياة حتى بعد إنفصالهما، والى أن يقف معها، كما فعلت هي، في مِحنة مرَضها ورحلة شِفائها منه، والتي رافقها فيها لحظة بلحظة.
هكذا كان فاروق الفيشاوي، وهكذا عاش حياته، وهكذا ظل حتى اللحظات الأخيرة منها ثم رحل عنها، وهكذا يفترض بنا أن ننظر إلى شخصيته بكل إيجابياتها وسلبياتها، على أن لا ننسى بأنه كان وسيظل فنانا في المقام الأول والأخير، وشخصية الفنان عادة مُرهفة وتَقبَل التناقضات، وحُكمنا في النهاية يفترض أن يكون على إبداعه وما ترَكه من سِفر فني، وليس على تناقضات شخصيته وتقلباتها. ومن هذه الناحية كان فاروق الفيشاوي، وبكل تأكيد، متميزاً وبجدارة تستحق منا أن نبقى نتذكره دائماً بكل خير، وأن نتمنى لروحه النقية أن تحظى بالطمأنينة والسلام في رحلتها الأبدية إلى عالم آخر قد يكون أكثر سلاماً وتصالحاً معها من عالمنا هذا.