فراغان فلسطيني... واسرائيلي

بعض الهدوء والتروّي ضروريان في مثل هذه الايّام، خصوصا انّ التغيير لا بدّ ان يحصل فلسطينيا.
سنوات نتانياهو الطويلة هي سنوات الجمود السياسي
ما العمل بثمانية ملايين فلسطيني يعيشون بين البحر والنهر
هناك شعب فلسطيني يمكن الرهان عليه خارج حماس وصواريخها التي لا تخدم سوى إسرائيل

تذكّر القدس وانتفاضة أهلها في وجه الاحتلال بوجود قضيّة فلسطينية يصعب التخلّص منها من دون تسوية عادلة ومعقولة تأخذ في الاعتبار وجود شعب على الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط. القضيّة قضيّة شعب حاضر بقوّة في السياسة وباق خارج الجغرافيا. هذا امر مخالف لكل منطق التاريخ.

من اجل التخلّص من القضيّة لا مفرّ من التخلّص من شعب بكامله. هذا مستحيل. هذا ما تجاهله بنيامين نتانياهو الذي بات مستقبله السياسي مطروحا بعدما اعتقد طويلا ان الوقت سيجعل الشعب الفلسطيني ينسى قضيّته.

ليست الانتفاضة المستمرّة منذ بضعة ايّام في القدس سوى تأكيد لحيويّة الشعب الفلسطيني ورفضه الاستسلام على الرغم من كلّ المصاعب التي يواجهها، بما في ذلك صعوبة اجراء انتخابات تشريعيّة الشهر المقبل تمهيدا لانتخابات رئاسيّة في الصيف. ليس ما يشير الى محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية متحمّس للانتخابات. كذلك، تبدو أولويات "حماس" مختلفة عن ضرورة اجراء انتخابات تشريعية للمرّة الأولى منذ 2006. على الرغم من ذلك، ليس مستبعدا اجراء الانتخابات في موعدها، بغض النظر عن وجود جهات أميركية تدفع في اتجاه التأجيل.

كان لافتا ترافق انتفاضة القدس مع فراغين سياسيين. الاوّل إسرائيلي والآخر فلسطيني. يعبر عن الفراغ الاسرائيلي العجز عن تشكيل حكومة بعد اربع عمليات انتخابيّة في عامين. ثمّة صحف إسرائيلية تحدّثت ايضا عن فراغ امني في القدس في ظلّ تجاذبات بين المسؤولين عن الامن في المدينة على مستوى البلدية والشرطة ووزارة الداخليّة. فوق ذلك كلّه، يبدو واضحا انّ القرار في إسرائيل صار في عهدة المؤسستين العسكريّة والأمنية اللتين تتولّيان إدارة كلّ ما له علاقة بالملفّ الإيراني، خصوصا في مجال التنسيق مع الجانب الأميركي وعرض الهموم والاولويات الاسرائيلية...

يتبيّن ان السنوات الطويلة التي أمضاها "بيبي" في موقع رئيس الوزراء كانت سنوات الجمود السياسي بهدف خلق امر واقع على الأرض. لم يتغيّر شيء في رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يتأكّد يوميا انّه اسير معتقدات معيّنة غير قابلة للتطور. اكّدت ذلك انتفاضة القدس. عمل "بيبي" كل ما يستطيع من اجل تكريس القدس عاصمة ابديّة لإسرائيل. نجح في حمل الإدارة الأميركية السابقة في نقل السفارة من تلّ ابيب الى القدس وفي انتزاع اعتراف منها بالمدينة كلّها عاصمة لإسرائيل. في نهاية الاحداث، تبيّن انّه لا يزال في القدس، من سكّانها العرب، من هو مستعد لرفض الاعتراف بالأمر الواقع.

ليس معروفا ما الذي يمكن ان يفضي اليه الفراغ السياسي في إسرائيل. لكن الأكيد ان مسألة إيجاد حلّ او تسوية مع الجانب الفلسطيني لا يمكن الّا ان يطرح يوما. ما العمل بثمانية ملايين فلسطيني يعيشون بين البحر والنهر، أي بين البحر المتوسّط ووادي نهر الاردن؟

عاجلا ام آجلا، سيكون على إسرائيل الإجابة عن هذا السؤال. ولكن عاجلا ام آجلا ايضا، سيكون على الفلسطينيين البحث عن قيادة مختلفة، اقلّه في الضفّة الغربيّة، في غياب القدرة على تخليص قطاع غزّة من براثن "حماس" التي تنتمي الى الاخوان المسلمين والتي تحظى بدعم إسرائيلي لسياسة اطلاق الصواريخ وتحويل القطاع الى سجن في الهواء الطلق لمليوني انسان.

يُفترض في الفلسطينيين الموجودين في الضفّة الغربيّة التفكير مليّا في كيفية ملء الفراغ الساسي القائم وذلك بعدما فقد "أبو مازن" اعصابه في الاجتماع الأخير للجنة المركزيّة لحركة "فتح"، مباشرة بعد إعطائه أرقاما يفهم منها تقدّم اللوائح التي يدعمها محمد دحلان وناصر القدوة على قائمة "فتح". دفع الثمن عضو اللجنة المركزيّة عباس زكي الذي طرح فجأة ضرورة ارسال برقيّة تهنئة الى الحزب الشيوعي الصيني في مناسبة مرور مئة سنة على تأسيسه. كانت النتيجة شتائم من النوع الثقيل اطلقها رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية متناولا الصين وروسيا وأميركا و"كلّ العرب".

وجد من يسجّل المداخلة ذات الطابع التاريخي لـ"أبو مازن"، وهي مداخلة مثيرة للضحك جرى توزيعها بشكل رسائل على "واتساب". ظهر رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية حانقا بالصوت والصورة. لم تنفع، بالتأكيد، كل المحاولات التي بذلها محيطون به لنفي حصول الحادث، علما ان الطفل الصغير يعرف انّ هذه طريقة محمود عبّاس، وهي طريقة تهكّمية، في التعاطي مع الاحداث عندما تدور الأمور لغير مصلحته ويبدو عليه الانفعال.

بعض الهدوء والتروّي ضروريان في مثل هذه الايّام، خصوصا انّ التغيير لا بدّ ان يحصل فلسطينيا. الأكيد ان مثل هذا التغيير لا يحدثه شخص مثل مروان البرغوثي الذي يمضي عقوبة في سجن إسرائيلي. البرغوثي مناضل، لكنّ النضال شيء والسياسة شيء آخر. فإذا كانت إسرائيل التي تدفع حاليا ثمن التحولات التي طرأت على مجتمعها المنقسم بين اليمين المتطرّف واليمين الأكثر تطرّفا، يبدو ضروريا ان يبحث الفلسطينيون عن شخصيات مختلفة عاقلة تتعاطى مع الاحداث التي يبدو انّ المنطقة كلّها، وليس الضفّة الغربيّة وحدها، مقبلة عليها. اين الضرر اذا استعان الفلسطينيون بأشخاص مثل الدكتور سلام فيّاض رئيس الوزراء السابق الذي لم يتحمّله "أبو مازن". لم يتحمّله بسبب إصراره على بناء مؤسسات فلسطينية تستطيع التعاطي مع العالم الخارجي وتتمتع بحد ادنى من الشفافيّة.

ماذا بعد الفراغ الإسرائيلي والفلسطيني؟ الجواب انّ الإدارة الأميركية ستكون مستعدّة بعد سنة، في اقلّ تقدير، لطرح مبادرات ومحاولة البحث عن تسوية استنادا الى خيار الدولتين. ستجد إسرائيل طريقة للملمة أوضاعها الداخليّة والتخلّص من بنيامين نتانياهو وارثه بطريقة او بأخرى. في انتظار ذلك وفي انتظار تراجع اليمين واليمين المتطرّف، من الطبيعي ان يبحث الفلسطينيون عن قيادة جديدة. قيادة تعرف مصلحة الشعب الفلسطيني، قيادة على تماس مع ما يدور في العالم والمنطقة، قيادة تأخذ في الاعتبار ان انتفاضة القدس ذات معنى. قد يكون المعنى الاوّل ان هناك شعبا فلسطينيا يمكن الرهان عليه وعلى صموده خارج "حماس" وصواريخها التي لا تخدم سوى إسرائيل.