فرناندو بيسوا: كن كاملا في كل شيء

وائل عشري يقدم لترجمته لكتاب "فرناندو بيسوا.. رسائل ونصوص" بورتريها رائعا لسيرة حياة بيسوا شاعرا وناثرا غامضا ومتعددا.
أن تكون كاملا في أي شيء يعني أن تكون على حق
التعدد البيسوي ليس سوى تعدد العالم ذاته، بخيره وشره، برماديته، بتعقيده العصي على التبسيط

يقدم وائل عشري لترجمته لكتاب "فرناندو بيسوا.. رسائل ونصوص" لفرناندو بيسوا بورتريها رائعا لسيرة حياة بيسوا شاعرا وناثرا غامضا ومتعددا، وهؤلاء الأنداد الذين سبقوه أو جايلوه من الكتاب والشعراء والناثرين، وألقوا بظلال كثيفة على مسيرته الإبداعية وأيضا دوره في وجودهم الإبداعي، انطلاقا من الشعراء الثلاثة الأكثر شهرة في التاريخ الأدبي الحديث للبرتغال وشهرته بين أنداده وهم "ألبرتو كاييرو"، "ريكاردو رييس" و"ألبارو دي كامبوس".
وعشري إذ يقدم ذلك يرسم تشابكات وتعقيدات تلك العلاقات فـ "عالم أنداد بيسوا أكثر اتساعا من هذا الثلاثي الشعري على أهميته. يشمل عديدا من شخصيات أخرى، مؤخرا أحصى بعض دارسيه مائة وستة وثلاثين ندا بعضها رئيسي وبعضها هامشي، تناولوا في كتاباتهم موضوعات مدهشة في تنوعها شعرا ونثر، بالبرتغالية والإنجليزية والفرنسية، في النقد الأدبي والرأي السياسي، في التنجيم والعلوم الباطنية، في الدين والوطنية البرتغالية، في الكتابة الساخرة والتحليل الاجتماعي، في القصة القصيرة والرواية البوليسية والفلسفة".
يأخذنا عشري في ترجمته الصادرة عن دار كتب خان إلى التاريخ الأدبي الحديث للبرتغال وفي القلب منه بيسوا وأنداده من الشعراء والكتاب والمفكرين، متسائلا في سياق سرده العميق: ما الذي اعتقده بيسوا حقا؟ ويقول "هذا السؤال المستحيل، فقد رأى بيسوا أن "الكمال" يكمن في الشعور بكل ما يمكن الشعور به. "كن كاملا في كل شيء" هكذا يكتب بيسوا في شذرة مبكرة، "أن تكون كاملا في أي شيء يعني أن تكون على حق. كل الطرق تصل إلى نفس المكان".

اليوم لا شخصية لي: لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي أنا فقط

على هذا فإن التعدد البيسوي ليس سوى تعدد العالم ذاته، بخيره وشره، برماديته، بتعقيده العصبي على التبسيط. في ذلك العالم الخاص الذي يمكن أن نشبه موقع بيسوا فيه بـ "خشبة مسرح خالية" (إن استعرنا تعبيرا لبرناردو سواريس) يتعدد الممثلون وتتعدد الشخصيات / الأنداد، وتتعدد المشاعر والآراء التي يصل بها كل ند إلى حدها الأقصى، أي كمالها. بل يبدو أحيانا كما لو كان بيسوا بنفسه أو عبر ند، يعبر عن رأي ما لا لسبب سوى أن ذلك الرأي والشعور المترتب عليه موجود ويمكن الشعور به.
ويؤكد عشري أن إعطاء بيسوا حقه يعني أن نضع كل هذا في حسابنا على أعمق نحو ممكن، أن نرى فيه الشيء وضده، الذات المتعددة المتناثرة والأمة العبقرية ذات الرسالة الإنقاذية التي يتمثل خلاص العالم الروحي في الخضوع لسطوتها الناعمة، أن نراه لا كأيقونة (لتشظي الحداثة على سبيل المثال، أو حتى كمجرد إمكانية لعبية تهز الجدية المبالغ فيها لمثقفين وكتاب يعينون أنفسهم رسلا وقادة أو طليعة لقراء أو لشعب) بل ككون متناقض، كعالم يخصه لكنه يشبه (لهذا الحد أو ذاك) العالم الواقعي خارجه. أن نعطي بيسوا حقه يعني، ربما، ألا نختزله إلى إمكانية للخلاص أو التسلي، أن ننظر إليه ولما يمثله كتحد لا كخلاص".  
ويواصل عشري تساؤلاته حول بيسوا "أي سيرة يمكن أن تكتب لفرناندو بيسوا؟ كيف يمكن حتى الحديث عن "فرناندوا بيسوا"؟ كيف يمكن أن نكتب سيرة ولو موجزة لذلك التعدد والتناقض المسمى "بيسوا"؟ هل هناك أي أهمية لما فعله هو؟ وما مر به فعلا بجسده، بشخصه؟ هل ثمة أي أهمية لعلاقاته العائلية والشخصية، أين سافر وأين استقر؟ هل انضم لجماعة سرية ما؟ هل حقيقي ذلك الهوس بكشف الطالع والتنجيم والعلوم الباطنية الذي يبدو من كتاباته المتعددة في ذلك الشأن؟ هل رأى فعلا أن البرتغال تحمل رسالة لإنقاذ العالم؟ هل وحد بين تعدده يقين بانفصال مطلق بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي؟ من أحب وهل أحب؟ هل كان بوسعه، بداية، أن يحب؟ هل يمكن أن نفصل الشخص الذي عرفته بيروقراطية الدولة باسم "فرناندو بيسوا عن أنداده المتعددين وحيواتهم المتخيلة التي لا وجود لها في تلك الأوراق التي تقرها هذه البيروقراطية؟ أين يبدأ التظاهر وأين ينتهي فيما يخص ذلك الذي حول حياته إلى مسرحية ممتدة؟ هل يمكن أن نجد بين كتاباته ما يمثل ثغرة ننظر منها إلى داخل حميمي يخص بيسوا ـ ذاته بدون ذلك العالم الذي شيده حول نفسه؟ هل ثمة داخل أصلا في تلك الشخصية التي يصفها ألبارو دي كامبوس بـ "كرة خيط ملتفة حول نفسها من الداخل"؟
ويرى أن المعتاد في رسائل كاتب شهير أن تُقاس جاذبيتها بالنسبة إلى جمهور مهتم، وأن تحدد قيمتها بمدى ما تسمح به برؤيته "داخل" ذلك الكاتب، ودرجة الصدق التي تكشف به أو تعري من خلاله شخصيته الحقيقية ـ تلك التي لا تظهر عادة في كتاباته. لكن ماذا إن كانت تلك الشخصية الحقيقية ببساطة غير موجودة؟ ماذا إن كان ذلك الفضاء الداخلي المبهم المسمى الشخصية أو الذات فضاء غير شخصي، "خشبة مسرح" كما دعاها سواريس، يتخلى فوقها كاتب ما، بيسوا على سبيل المثال، عن ذاته أو يعلن عن غيابها، حيث يكشف عن دراما شخصيات تتفاعل فيما بينها، حيث هو ذاته، يحمل الاسم، من له حق التوقيع، من تنظر إليه بيروقراطية الدولة كشخص مسئول عن أفعاله، محدد وملزم بتوقيه، الأقل وجودا، وبشكل ما الأقل أهمية؟     
ويلفت عشري إلى أن الرسائل المختارة في الكتاب ليست شخصية ولا حميمية على نحو خاص على الأقل ليس كما تفهم الكلمتان في معناهما الشائع. هي رسائل تنتمي إلى عالم الكون المصغر الذي ابتكره بيسوا دون أن يكون هو في مركزه بالضرورة، إنها مثل النصوص الأخرى المختارة، رسائل درامية إذا استعرنا تشبيه بيسوا المفضل حين يصف عالمه، حيث الأنداد شخصيات لكل منها صوته الخاص، هي رسائل مسرحية تصدر عن نفس العالم الذي سكنه بيسوا، من "يعيش في أفكاره أكثر مما يعيش في الواقع"، كما يصفه نده الأقرب إليه أباردو دي كامبوس.

يبسط رعب ريحه فوق شعري
لا شيء سوى ظلال ونهار في كل مكان آخر

تطمح المختارات إلى إلقاء الضوء على هذا التعدد البيسوي، كتب بعض أنداد، وأكثرها حميمية تسبر العالم الأدبي الذي سكن بيسوا وسكنه، وشغل فيه موقعا أشبه ما يكون بوكيل، أو منفذ أدبي، أو ناشر.
ويواصل عشري رسم بورتريهه لبيسوا كاشفا عن فرادته وما اكتنف رؤاه وتعدده من غموض متتبعا لمسيرته في الحياة والإبداع من الولادة في لشبونة في 13 يونيو/حزيران 1888 إلى الانتقال إلى جنوب أفريقيا للعودة إلى لشبونة، فالرحيل إلى سويسرا للإقامة مع خالته أنيكا، ليستقر مع أمه وأخته عام 1920، وفي هذه الأثناء كان قد بدأ كتابة الشعر والنثر باللغة الإنجليزية، وبتوقيع الندين المبكرين تشارلز روبرا لأنون وألكسندر سيرش تركز طموح بيسوا الأدبي في هذه الفترة على الكتابة بالإنجليزية، وهو أمر لم يتغير سوى بعد عدة سنوات من عودته إلى لشبونة واستقراره بها. 
ربما كان الأمر الحاسم هنا بجوار الابتعاد عن اللغة الإنجليزية وكثافة التعامل مع البرتغالية في الحياة اليومية وقي قراءاته هو ظهور الشعراء الثلاثة الكبار له عام 1914، وهم "ألبرتو كاييرو"، "ريكاردو رييس" و"ألبارو دي كامبوس". وقد بدأ في نشر إنتاجهم في العددين اللذين صدرا من مجلة أورفيوس عام 1915 وهي مجلة أسسها مع عدد قليل من الشعراء والفنانين البرتغاليين وعلى رأسهم صديقه الأقرب إليه قصير العمر ماريو دي سا كارنييرو.
في حياته نشر بيسوا عددا قليلا جدا من الكتب، أغلبها كتيبات شعر باللغة الإنجليزية: "35 سونيتات" 1918، "قصائد إنجليزية 1 ـ 2"، "قصائد إنجليزية 3" 1921، بالإضافة إلى ديوانه البرتغالي الوحيد "رسالة" 1934. أما أعماله المنشورة شعرا ونثر فقد ظهرت متفرقة في مجلات ودوريات أدبية. عند وفاة بيسوا عام 1935، لم تكن أي من أعماله الرئيسية كما نعرفها اليوم قد نشرت في كتاب، بل لم يكن من هذه الكتب قد أخذت شكلا مكتملا كمخطوط.
من رسائل ونصوص بيسوا ما جاء تحت عنوان: 
"رواية أخرى لنشأة الأنداد":
منذ كنت طفلا شعرت بالحاجة إلى توسيع العالم بشخصيات متخيلة ـ أحلام لي صيغت بعناية، متصورة بوضوح فوتوغرافي، وسبرت أغوارها حتى أعماق أرواحها. حين لم أكن قد تعديت الخامسة من عمري بعد، طفلا منعزلا وراضيا تماما بذلك، استمتعت بالفعل بصحبة شخصيات محددة من أحلامي، بما فيها شخصان يدعيان القبطان تيبو والفارس دو با، وعديد من آخرين نسيتهم، ويمثل نسيانهم ـ مثل ذاكرتي الناقصة عن الاثنين اللذين ذكرتهما ـ أحد أكبر دواعي الندم في حياتي.
قد يبدو أن هذا لا يتعدى مثال خيال طفل يمنح حياة لدمى. لكن كان الأمر أكثر من هذا لقد تخيلت تلك الشخصيات بشكل مكثف بدون احتياج إلى دمى. مرثية بوضوح في حلمي المتواصل، كانت تلك الشخصيات بالنسبة لي حقائق إنسانية تماما وهو ما كان لتفسده أي دمية ـ لأنها غير حقيقية. كانوا بشرا.
وبدلا من أن ينتهي ذلك الميل بنهاية طفولتي فقد زاد في مراهقتي مكتسبا جذورا أعمق مع مرور كل عام، حتى أصبح طريقتي الطبيعية في الوجود. اليوم لا شخصية لي: لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي أنا فقط.
لا توجد سكينة سوى حيث لا أكون
لا توجد سكينة سوى حيث لا أكون،
الكلمات مرحة حيث لا أمر أبدا،
لا شيء سوى الظلال يكون حيث فكري
يغرز في العشب الرطب الميت
لا شيء سوى ظلال ونهار في كل مكان آخر
منتظرا من ينتظرون ويأملون 
يبسط رعب ريحه فوق شعري، 
ويد باردة تتحسس باحثة عن يدي الباردة.
غير أنه لا شيء فيّ سوى الألم يستحق هذا، لا شيء فيّ سوى هذا يستحق الألم.
أوه يا، أم الظلال، من قبلتها التي لها موات الثلج
هي الجنون، حتى الخطى نحو عقلي.