فقدان الصحافة لثقة الجمهور أمر خطير، الأكثر أهمية كيف تكسبها في العالم الرقمي

* الثقة  تتبدد في الأخبار بكونها أفضل من يساعد الناس على فهم عالمهم، لذلك على الصحافيين التخلص من دور مشجعي النادي الذي يخسر دائما.
أزمة الصحافة
صراع الرقمي والورقي

عندما يشعر صحافي ورئيس تحرير سابق، من طراز ألان روسبريدجر، بأنه لم يكن في يوم من الأيام عاجزا عن الكلام كما يحدث في بلدان تخبر فيها الأجهزة الأمنية المحررين بما يمكنهم أو لا يستطيعون الكتابة عنه! فإنه المؤهل بامتياز لصناعة أفكار جديدة في صلب مأزق الصحافة اليوم.

تأمل ألان روسبريدجر الذي بقي في موقعه عقدين من الزمان في أطول فترة لرئيس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية، من أجل إعادة رسم الطريق إلى قوة الصحافة، بعد أن تفاقمت الشكوك بشأن دورها عندما استحوذت الشركات الرقمية على القوة والمال.

الناس أكثر إحجاما للتخلي عن الأخبار، هناك شكوك على نطاق واسع، وارتباك وعدم ثقة في الصحافة السائدة منذ أن ساد مصطلح ما بعد الحقيقة قبل سنوات، لقد تبددت الثقة في الأخبار بكونها أفضل الطرق التي تساعد الناس على فهم عالمهم. بل إن وسائل الإعلام التي حافظت على الأخبار الصادقة القوية تمّ كسرها بقوة المال والسياسة.

يعود ألان روسبريدجر إلى مبعث القلق في بدايته عندما اعتقد البعض أننا غرقنا في الكثير من الأخبار، بينما خشي آخرون أن تصل الصحف إلى مرحلة الخطر وتصبح بلا أخبار، فيما يعتقد البعض أن لدينا الكثير من الأخبار المجانية. في هذا الخضم المتسائل تترك الخدمات الصحافية والأخبار المدفوعة الثمن وراءها قافلة طويلة من الجهل.

وفي النهاية وصلنا إلى مفارقة كان هناك الكثير من الأخبار الخاطئة بينما يتصاعد الشك بشأن الأخبار الموثوق بها. فهل يمكن أن تصل بعض المجتمعات قريبا إلى زمن تنعدم فيه الأخبار؟ إذا لم يكن هناك ما هو صحيح فيمكن لكل شيء أن يكون كاذبا.

كذلك يسأل رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة المخيفة؟ وكيف يمكننا العودة إلى ما كنا ننتمي إليه من قبل؟

قبل سنوات قليلة من إطلاق موقع تويتر وإنشاء منصة الأخبار على فيسبوك، وقبل انهيار النموذج الاقتصادي الذي دعم الصحافة لمدة قرن. عبر روسبريدجر عن سعادته إن حظيت الصحف بثقة 13 بالمئة إلى 18 بالمئة من القراء، ستكون حينها الصحافة محظوظة حقا! لذلك يبدو سؤال كيف فقدت الصحافة ثقة الجمهور مهمّا، والأكثر أهمية منه كيف تكسبها مرة أخرى في العالم الرقمي؟

يقترح روسبريدجر تخلص الصحافيين من تقمص دور مشجعي النادي الذي يخسر بشكل دائم بينما جمهوره يستمر بالتشجيع “لا أحد يحبنا، نحن لا نهتم”.

إذا كانت الصحافة، إلى حد ما، خدمة عامة، فيجب على المحرر أن يفهم روح الخدمة العامة، وهو أمر ذو قيمة للمجتمع دون أن يحقق بالضرورة عائدا ماليا مباشرا. هذا يعني التفكير في هذا النوع من الصحافة بنفس الطريقة التي قد يفكر فيها رجل الشرطة أو قائد سيارة الإسعاف أو رجل الإطفاء. أنت، كمواطن، تتوقع أن يتم تشغيل هذه الخدمات بكفاءة، لكنك لا تتوقع أن يضطروا إلى تبرير أنفسهم على أساس الربح.

لكن روسبريدجر لا يخفي، مع أنه يعيش في كنف الديمقراطية ويفترض أن هناك العديد من الضوابط والتوازنات لمنع الأشخاص الأقوياء من القيام بأشياء ملتوية. إلا أنه كصحافي بريطاني شكك في صحة ذلك يوما ما! هذا يدفعنا إلى مقارنة شك روسبريدجر بما يشعر به الصحافي في عالمنا العربي!

يشير روسبريدجر إلى الصحف الشعبية البريطانية بوصفها نموذج أعمال ينطوي جزئيا على التدخل في خصوصية الأشخاص “اليوم لدينا في العالم العربي الصحافة الحزبية كمعادل للصحافة الشعبية البريطانية”. شهية الجمهور للأخبار الفضائحية تغلب عند تلك الصحف على التغطية السياسية.

لكن هل تضم غرفة الأخبار في تلك الصحف الشعبية فريق تحرير يمتلك من الحرية أكثر من “الغسيل القذر” تماما كما تفعل صحافة الأنظمة الفاسدة في العالم العربي بجعل الأكاذيب حقائق ورسم صورة للصوص بملابس الشرفاء.

لذلك تواجه الصحافة اليوم تهديدا اقتصاديا وجوديا في إعادة ضبط مكانتها في العالم. بينما يتصاعد الجدل المتشائم بشأن الإعلام والسياسة والديمقراطية، هناك تردد أكثر من أيّ وقت مضى بشأن تعريف الصحافة، ولماذا هي مهمة.

يقول ألان روسبريدجر “إذا كان الصحافيون لا يستطيعون الاتفاق على فكرة عامة عن طبيعة المصلحة العامة والخدمة التي يطالبون الحكومات بتوفيرها للناس، فإن ذلك يعقد الدفاع عما نقوم به في عصر الإعلام الحر الأفقي، من المهم بالنسبة لنا كصحافيين أن نكون قادرين على تحديد وإعلان قيمنا وأهدافنا واستقلالنا”. ولكن بعد سنوات من الكشف عن فضائح التنصّت والتجسس من قبل الحكومات ودور الصحف فيها، أصبح من الواضح الآن أن الدول نفسها تكافح للوقوف في وجه الاضطراب الرقمي الذي مزق في البداية وسائل الإعلام الراسخة وعاد الآن إلى إعادة تشكيل السياسة. لم تكتف الشركات الرقمية العملاقة بإطلاق العنان لظهور فوضى المعلومات فحسب، بل إنها أصبحت، في غمضة عين، أقوى المنظمات التي شهدها العالم على الإطلاق.

يصل روسبريدجر إلى اختلافنا المتردد في تعريف المصلحة العامة مع أن الناس يقدرون هذه المصلحة وخدماتها، يتحدثون عنها برضا دون تعريفها بشكل مرض. لذلك ينصح بأن يكون الدفاع النهائي عن الصحافة هو في جعلها منفعة عامة. مع أن الصحافيين أنفسهم غالبا ما يختلفون على طريقة قياس أو تقدير الصالح العام، لأن القيم السوقية هي التي أصبحت تتحكم في حياتنا كما لم يحدث من قبل.

قبل عقد من الزمان، كان الحديث في وسائل الإعلام عن الليبراليين الذين لم يكونوا تجاريين بما يكفي لإنتاج صحافة لائقة كان الجمهور يريد أن يقرأها “كما قال إمبراطور الإعلام جيمس مردوخ بشكل سيء في عام 2009: إن الربح يجب أن يكون اعتمادا دائما من أجل استقلال الصحافة” ولكن اليوم، وفي مواجهة القوة التجارية الهائلة المحركة لعمالقة وادي السليكون، هناك صرخة عبر وسائل الإعلام ضد الفوضى التي ألحقتها الأسواق الحرة بالصحافة التقليدية.

بعد عقدين من الانهيار، قد يكون من الممكن ألا يتمكن أيّ من نماذج الأعمال التقليدية القديمة من دعم الصحافة الجادة من أجل المصلحة العامة. لكن التحدّي بنظر ألان روسبريدجر هو العمل الأساسي للصحافة، والدعوة التي ينبغي لها أن تبقى في أقصى حيويتها، أن تفرز الصحافة الأكاذيب عن الحقيقة، كي تظل حرة.