فواصل بين الحياة والموت في 'العراء' لحفيظة قاره بيبان

الرواية تشكل تجربة سردية مغايرة تبدأ بالموت وتنتهي بالدفن، لكنّها تزخر بفصول تنبض بالحياة، تتجلّى فيها دجلة كرمز للمرأة، والمكان، والوطن العربي الجريح.
أقدّم اليوم رواية العراء لحفيظة قارة بيبان وقد صدرت في طبعتها الثّالثة مؤخّرا عن دار خريف -تونس، بعد طبعة أولى عن دار نقوش عربية وطبعة ثانية مصرية عن  الهيئة العامة المصرية للكتاب.
لا أخفي عنكم، هذه الرّواية تربكني وتجعلني أهتز وأرتجف. كنت قرأتها منذ سنوات في طبعتها الأولى، وأذكر أنّها رجتّني، لا فقط كقارئة، بل كمرأة وكعربية وكإنسانة . حبر كثير سال حول هذه الرّواية لذلك أجدني في حرج ووجدتني أعيد قراءتها من جديد وكأنّني أكتشفها بعيون أخرى وبلا ذاكرة، ثمّ احترت وأنا أطرح على نفسي السّؤال الأصعب من أيّ باب سألج هذه الرّواية العصيّة؟ فالبدايات الكلاسيكيّة التّي تنطلق من قراءة العنوان والعتبات وغلاف الصّورة لا تليق بهذه الرّواية الاستثنائيّة لتخطر على بالي فكرة مجنونة كجنون هذه الرواية.                                                                                                                      
أقول إنّ هذه الرّواية لا تقرأ إلّا بطريقة شاذّة عن المألوف وصرخ الحبر في شرايين القلم ، فليكن إذن .لتكن القراءة مقلوبة رأسا على عقب بدءا بالنّهاية سباحة ضدّ التّيار السّردي وشلّاله الهادر حتى أعلو قمّتها ليكون القلم سمكة سلمون تسبح عكس منطق الماء  فلنبدأ إذن من الخاتمة.

النهاية:

 النهاية فاصل أخير هو عنوان النّفس الأخير من الرّواية يتمثل في مشهد دفن ذات جنازة ليخيّم طقس  موت وقبر فنرى البطلة تقبر جسدا تحت لحد لكنّ صوتها يتردّد في الأصداء عائما طيفا غائما شبحا وميضا ملاكا بين الأرواح الطّائفة ويتردّد صوت الرّاوية  في آخر جملة مع آخر خطوات المعزّين والمشيّعين المغادرين للمقبرة "مضيت نسمة مسافرة أعلو في البياض النّوراني تاركة الأرض تلفّها بقايا غيوم"

قد تبدو النّهاية ملتحفة بالسّواد والحداد لكنّها لا تبعث  في القارئ حزنا ولا ألما وإنّما نشوة روحيّة سامقة تبثّها الرّاوية الطّيف الرّوح سعيدة بالتّحرر من عقال الأرض والجسد في مشهد صوفّي فريد من التّجلي والإلتحام بالمطلق .

هذه النّهاية تغرينا بالقفز بين القبور ومغادرة المقبرة والنّبش بين الصّفحات لهاثا نحو البدايات لنجيب عن أسئلة تقتحم دهاليز النّفس: لم تبدو الفقيدة سعيدة ولا سواد يخيّم على جنازتها بل بياض ونور غامضين ؟؟

يجب إذن أن نتتّبع لحظات حياة تفكّ غموض نشوة الموت ليرتدّ القلب والبصر إلى بداية الرّواية لكن صدمة أخرى مباغتة كشهقة وعي تفاجئنا فبداية الرّواية تصوّر لحظة إعلان للوفاة والنّعي  لنفاجأ بالصّوت ذاته يروي و يسرد لحظات التّفجع بانحسار الرّوح عن الجسد ونذهل: بداية الرّواية خبر الموت ونهايتها لحظة الدفن لكنّ أسئلة أخرى تتوالد : العادة كرونولوجيّا أنّ الزّمن بين الموت والدفن يوم وشطر أو بعض يوم  على أقصى تقدير ، فماالذّي سيحدث في الرّواية بين هذين الحدثين ؟ ما الزمن؟ ماالوجود ؟ ماالحياة في الرّواية؟ رواية نراها متردّدة بين فصول وفواصل في بناء فريد  وهو مايحيلنا إلى بنية الرّواية .

البناء بين فواصل الموت و فصول الحياة:

بنت حفيظة قارّة بيبان الرّواية بتصميم هيدروليكيّ فريد بديع ضاغط يحتكم إلى ثنائيّة الفواصل والفصول .

 إذ تبدأ الرّواية بما أسميته ما قبل الفاصل الأوّل الموت وتنتهي بفاصل أخير الدّفن وبينها تمتدّ فصول خمسة في لحظة أولى ففاصل ثان فأربعة فصول في لحظة ثانية ففاصل ثالث فخمسة فصول أخرى .

هذه الثّنائية الفريدة تحتكم إلى نسق ثنائيّ ضديد يشطرها حرقة وريد ونبض دم  فالفصول جميعا ترتبط بالحياة بالحضور الطّاغي للشّخصيّات تعيش تتنفّس تحبّ وتعرق وتؤمن بالذّات والوجود، أماّ الفواصل فترتبط بحدث الموت بردا وجمودا وشحوبا من الإعلان إلى الدّفن.

 ولو تعمقّنا في الفواصل المسيّجة للرّواية افتتاحا انغلاقا واختراقا ,لوجدنا أنّها يمكن أن تكون رواية بحدّ ذاتها قد يكون عنوانها  سيرة ذاتيّة لجثّة .

ففي الفاصل الأول نسمع صوت الرّاوية وهو يصف ردّ فعل الأبناء والزّوج حسام تجاه خبر موتها وهي انسلخت روحا طيفا صدى يحوم فوق الرّؤوس، صوت يسمع الهاتف، يرى تعاطف الأهل وصدمتهم بل يحاول حتّى أن يخفّف عنهم مصيبة موته  ويمتصّ تفجّعهم .تقول الرّاوية "وكهبّة نسيم شاهدتني أنسحب من الإطار وأخرج من الصّورة مع ضجّة الأمطار وهدير البحر  ولم يلمحني أحد".  أمّا الفاصل الثّاني ص95 فيرتبط بطقوس تغسيل الجسد البارد وتطهيره من ريح الحياة تقول الرّاوية "صغيرتي لا تفزعي سأستحمّ قبل الرّحيل وسأعود إليك نقيّة طاهرة لتمنحيني قبلتك الأخيرة" ليكون الفاصل الثّالث ص156 مرحلة أخرى من مراسم إعداد الجثّة لزفافها الأخير على نغمات التّراتيل والآيات القرآنيّة وأصوات المقرئين الخاشعين في طقوس صوفيّة جذبيّة لنداء البياض النّوراني. تقول" البياض الغامر يدعوني يلفني لأعلو بعيدا،بعيدا تاركة تخوم الاسئلة"  لنجد أنفسنا في الفاصل الأخير الذّي تنتهي فيه الرّواية ومسيرة المشروع السرديّ للجثّة بمشهد الجنازة وموكب الدّفن والغياب الأخير.  تقول" طرت بعيدا  مع الرّيح . كان هدير البحر القريب أسفل الرّبوة يعلو على ضربات الفأس في المقبرة وكنت أعلو على غيمة بيضاء ."

إنّ هذه الفواصل التّي تتتبّع مسيرة جثّة تتردّد بين الصّوت والموت لتحيط بالرّواية فصولا من الحياة لدجلة العامريّ البطلة الرئيسيّة والشّخصيّة المركزيّة في الرّواية .

البطلة الرئيسية الجثة الحية :

دجلة في الرّواية تتجلّى من أوجه عدّة :

1/ دجلة الماء:  ونحن نتابع الرّاوية في فصول الرّواية تهجم علينا المياه من كلّ منبع واتّجاه. إنّها البطلة الماء دجلة النّهر الدّافق  في العراق في محافظة الأنبار بكرخ العراق . نهر وإعمار وماء وحياة وكأنّ هذه الدّلالة تلاحق الرّاوية، فإذابها لا تموت . هي مياه البحيرات الرّاكدة  والشّلاّلات الهاوية على صخور الوجد, هي النّهر و المطر، هي دجلة الماء الذّي يحاصرها في الرّواية  ويتغلغل فيها ومنها، ينفجر ويتفجر تقول ص96 " الماء ظل ينسكب  على جسدي البارد والمطر في الخارج  ينهمر مدرارا على المدينة والبحر الصّاخب  يرسل  هديره إلى البيت المفتوح للمعزّين " فالماء كان حاضرا في الرّواية  حياة وموتا في مسيرة البطلة التّي تخرج من مجرّد شخصيّة روائيّة إلى أن تكون دجلة المدينة .

2/ دجلة المدينة: إذ تطالعنا دجلة عراقا شامخا يرتدّ بنا إلى بلاد بابل القديمة ,دجلة كلّ مدينة عربيّة تضجّ بها الرّواية  فتزدحم طرقات السّرد بمعابرها وحواجزها وقصورها وملامحها الذّائبة, دجلة الخليل وغزّة وقرطاج وبيروت وغرناطة وقرطبة وحمّام الشّط وسيدي بو سعيد, دجلة حيفا والأندلس وتونس  وفلسطين. دجلة ا لوطن العربيّ السّليب  وقد انتشر  فيه السّرطان  الصّهيوني  ينخره بساديّة . تقول دجلة ص166 "أفتح التّلفاز وأشاهد الأخبار الأخيرة .يحدّق في القتلى الشّهداء, تتناثر  الأشلاء على مائدة طعامي،  تشقّ الجرح الحديث  الالتحام . أظلم الشّاشة العربيّة المستسلمة لأصابع الأخطبوط  السّرطاني  وأدير صفحة الألم".

ليست دجلة في رواية العراء إذن الّا كلّ مدينة عربيّة مداسة من الأقارب والعقارب  والغربان  لكنّها رغم السّحق تنتفض من جديد  راوية تروي عطشها  رغم اليباب والقحط العربي،ّ دجلة  الجسد المقاوم  للسّرطان .

3/ دجلة المرأة: المرأة بكلّ العنفوان , دجلة الحبّ والحريّة والقهر  والكبرياء ,دجلة الكاتبة , الرّوح والجسد ,الصّوت والصّمت , الحياة والموت ,الدّفن والانبعاث , دجلة المجداف الرّئيسيّ في السّرد يعضدها على متن القارب  مجداف ثان  فإذا نحن إزاء غسّان سلمان  رجع الصّدى ونبرات الصّرخات المكتومة في حنجرة الرّاوية .

ليس غسان إلاّ صوت  فلسطين العارية  أمام بؤس العالم الذّي يرتدي  خرقا بائسة لقيم متشرّدة في الأصقاع  فحضور غسّان في الرّواية يعمّق غوصها في أزمنة وعصور  وتواريخ لتنبش الشّخصيات في الماضي شلاّل سرد  انسيابيّ  هادر  في ذكريات تتماهى معه في قارب بمجدافين  متوازيين: مجداف تحرّكه دجلة العامريّ  ومجداف مواز يمسك دفّته غسّان الشّاعر الفلسطينيّ اللاّجئ في تونس والمشرّد عبر المنافي  يحمل رفات وطن في الذاكرة ووهم عودة ,هو  الباحث عن صوت أمّه ورائحة بلده وحيّه النّاشد للحبّ المفقود و هو الطّفل  المكلوم بذكريات التّهجير والتّقتيل والتّعذيب يقول غسان "هل تنسى الذّاكرة  الوطن المغتصب  والطّفولة الموؤودة ؟والأمّ  الضّائعة حبلى في شهرها السابع؟ والأخ الفتى القتيل  في ساحة المدينة ؟" ويضيف : أتساءل أحيانا هل أنا الذّي ضعت مع أهلي  وشعبي أم أنّ الوطن هو الذّي ضاع ؟؟

ألوان من العذاب شتّى  تسوقها هذه الشّخصيّة الجمع في صيغة المفرد  الحاضرة بقوّة إزاء شخصيّة دجلة ،الرّغبة  والحلم والأمل منبثقا من الألم  يقول غسان ص164 "عادت دجلة أنثى الأضداد ".

صوّرت حفيظة قاره بيبان هذه العوالم المتناقضة للشّخصيّات بتواز فريد  بين حركتين  متناغمتين ، بطريقة  لافتة جدّا، فإضافة إلى ثنائيّة الفاصل والفصل ، سجّلت الرّواية على مدار مشروعها السّردي كاملا، تناغما بين حركة العالم  الباطنّي للشّخصيّة  ورسم هواجسها  وانفعالاتها من ناحية   وبين العالم الخارجي  للطّبيعة من ناحية أخرى,   تناغم تذوب فيه الحدود وتمّحي  بين طقس السّماء وطقس الأنا  وتتفاعل فيه العناصر داخليّا وخارجيّا في تماه ابداعيّ فريد  لنجد القلم يقفز لاهثا  بين رسم الحركة النّفسيّة للشّخصية فيسقطها على حركة الطّبيعة والفضاء  والعالم الخارجي  تقول الكاتبة ص47" بدت السماء  حيادية خلف الزجاج وانا أتعلق بها في عرائي مستنجدة . ظلال قاتمة  تغضن جبين الارض المجهدة . الكل يركض في اتجاه آخر والشمس  تمضي ببرودها  ساخرة لمستقر لها  مخلفة الأرض لدورانها المحموم ".

هذا الذوبان  بين عالم الشّخصية الباطنيّ والفضاء رحما يحتويها ، كان  سمة أدبية أسلوبية لافتة تسيطر  على كلّ مفاصل الرّواية ،" فالدّنيا  بعواصفها  وأنوائها  بجرذانها  وخرابها  تسكن فيّ " تقول دجلة ص204 .

لا يقتصر  إبداع حفيظة قاره بيبان على هذا الذّوبان والتّماهي بين عرق الحبر سردا وزخّات المطر في الطّبيعة وصفا وإنّما نلمح شكلا أعمق للإبداع  في استحضار  تقنيّات فريدة لعل أبرزها  الحلم .

تقنية الحلم :

الحلم في الرّواية ومضات تربكنا، تجعلنا نهتزّ فيختلط علينا الواقع بالحلم ، والسّرد بالوصف، والنّوم باليقظة والوعي بالهذيان والجنون  بالرّشد.

الحلم ينتشر في  ردهات الفصول فيساهم كمرايا متعدّدة متعاكسة الزّوايا  في رسم صور الذوات والشّتات وفي استبطان  عالم دجلة والغوص في  مياهها الجوفيّة العميقة وكسر  الصّفحة الهادئة لبحيراتها . هو غوص في مياه متدفّقة لشلّال تنكسر دفقاته على  صخور اليقظة.  تقول  دجلة ص73"أخذت أركض بعيدا  بعيدا  في ظلمة الليل .. أخيرا  توقّفت لاهثة وإذا بي في غرفتي  وحيدة في الفراش وتذكّرت  أنّ لي اليوم موعدا  مع الدّكتور سليم ".

هذا التّداخل  بين  التّقنيّات السّردية وآليّات الاستبطان في الرّواية , جعل السّرد يتوزّع  وفق رؤى  عديدة ومداخل  شتّى  تؤدّي بالقارئ إلى الأقاصي عبر تمازج فريد بين نصوص مختلفة في تناص لافت  مربك .

التناصّ في الرواية :

حشد من نصوص متباينة النّوع والجنس يسجّل حضوره  في الرّواية, نصوص تتدافع, تتعانق, تتعالق  دونما تنافر  إذ يحضر النصّ القرآنيّ  " فنبذناه  بالعراء وهو سقيم "في عتبة أولى تصديرا  إضافة إلى  المقال الصّحفي  والبرقيّات  والقصائد . هذا الاستحضار لنصوص  مختلفة  قد يوحي للوهلة الأولى  بالتّنافر  والتّباعد  لكننّا  نكتشف  أنّ الكاتبة  قد نجحت  في خلق تكامل  وظيفيّ  بين كلّ هذه النّصوص في  رحم  الرّواية  ألوانا من الإبداع وألوانا من الحقيقة والفنون .

العراء رواية الألوان :

يبدو قلم حفيظة قارة بيبان  مسكونا بهاجس فنّ تشكيلّي  قوامه الألوان فنعوت كثيرة لا تكاد

تخلو منها  لحظة من لحظات الرّواية، فاصل موت كانت أو فاصل حياة ،إذ تغزو الألوان  هذه الرّواية الماء غزوا جميلا جماليّا  بين خضرة و رماديّة وزرقة وحمرة وبياض وحمرة وسواد تقول: "يمسح الصوت  بعذوبته  شهادات  الأطبّاء  يمسح كلّ شيء يحيله بياضا صافيا وترتسم  فوقه كل الألوان المشرقة  وأغوص في أعماق الزّرقة المنعشة".

يتلوّن السّرد  ويسيل الحبر ألوانا  مختلفة تقتحم الرّواية  في لوحة رئيسيّة متشكّلة نبضا  ولونا  تقول "دعوت  الظلال , ظلال  أكثر, الرّمادي ينضاف  يتلاشى  على طرف العين  فوق الرّموش الطويلة  السّوداء, فرشاة الورديّ  تضيء الوجه الشّاحب,  قلم الأحمر  الأقحواني  يرسم الشّفتين "

هذه الألوان المرشوشة  عمّقت البعد الحسّي في العراء لتكون انغماسا في  طقوس الجسد والحسّ ،سماعا للموسيقى  ونشوة بنغماتها و روائح  هنا وهناك، صور  تراها العين  يحتضنها قلب الرّواية،  لذّة تكاد تذاق  وتجعل  الجسد وليمة لذّة تعدّ لدود ومشرط يبتر نهدا ،يستأصل رحما ، يلغي أنوثة يغيّر حلما.  

العراء رواية الألوان والحواسّ بمزيج إبداعي  مميّز يكسو القارئ ويعرّيه في آن، ليكون العنوان  العراء  مرتبطا  بتعرية الواقع العربي  في ثنائيّة اشتقاقيّة العراء و التعرّي  من خلال طرح جملة من القضايا المؤرّقة التّي تنطلق وترتدّ دائما إلى القضيّة الأمّ القضيّة الفلسطينيّة. 

الأدباء العظام أنبياء وقلم حفيظة قارة بيبان  صوّر  الواقع العربي المأساويّ  منذ صدور الرّواية  وكأنّه يتحدّث  عن واقع فلسطين اليوم .

على سبيل الختام:

نتعرّى، تتعرّى أصواتنا ارتعاشا، تنفتح جروح في أجسادنا ظنناها اندملت وذابت فوقها الضمائد،  تنفضح ذاكرتنا في كل مّرة وألف مرّة ومرّة أخرى،  ودائما يبدو الجرح عاريا، غائرا، نازفا وكأنما هو بعد وليد...مرة أخرى تتعرّى بنت البحر فإذا بها تعرّينا، تعرّي كلّ امرأة ، وإذا كلّ نساء الدّنيا عاريات أمام مرآة الذّات، مرآة الألم والعذاب، عاريات أمام الدّاء، أمام الرّغبة والقهر، فنتساءل، ما فائدة اللّباس مظهرا ثقافيّا أمام عراء الطّغيان والجبروت؟ ولم كانت الحقيقة عارية دوما أشدّ تأثيرا من العراء ذاته؟

رواية نجد أنفسنا أمامها حفاة عراة مشرّدين في أصقاع العالم مع كلّ طفل فلسطينيّ عار إلّا من سقف هويّة مسلوبة ووطن مطعون، مع كلّ امرأة تعرّى صوتها حنانا فغطّاها الثّرى جثمانا مقبورا، مع كلّ شاعر حاول إكساء المعاناة إبداعا، إيقاعا، فناّ، فإذا المعنى الجافّ العاري يمزّق لحاف المأساة، يعريّها ليتركها مرتعشة أمام مهبّ الدّمعة الأبيّة.

رواية العراء وأنت تطالعها تستنفر كلّ حواسّك ويداخلك التّوجّس ، فترتبك الأنثى النّائمة فيك وإذا أنت دجلة، المرأة المتخّوفة، دجلة الوطن والعراق وفلسطين وكل الوطن العربي، دجلة وهي تتحسّس الصّدر العاري خشية وارتباكا والصّوت المرتجف يهذي ربما تفشّى السّرطان الخبيث في المرمر، كما تفشّى الصّهيوني سمّا زعافا في تراب فلسطين، تقرأها فإذا أنت كلّ عربيّ أو ربّما بعضه أو شتاته أو شبحه، تنقهر أمام ذكرى النّكسة فتسترجع تاريخ عروبة تكسوها النّكسات وتعرّيها ،وإذا أنت كلّ شاعر عاش الألم يوما ويعيش وهم العودة كلّ يوم مترنّما بصوت فيروز يعرّي فيك  بشجنه حزنك العاري أمام كلّ نشرة أخبار : "سنرجع يوما إلى حيّنا، سيكسو عراءنا حنين الوطن".

"العراء"، رواية يمتزج فيها الوطن بالغربة والحب بالشّهوة والتّضحية بالغيرة والذّات بالوطن، هي الواقع الذّي نغطّيه، نداريه، نتناساه، فإذا هو يتعّرى أمامنا ويعرّينا وإذا لا خرق تكسو عورة ذلّنا وانكسارنا، هي تاريخ امرأة، تاريخ وطن، تاريخ أمّة.

الرواية باختصار، عراء العروبة، أمام صقيع القهر في زمن الدّفء العالمي الاصطناعيّ والاحتباس الحراريّ الذّي سيغطيّ عراء الأرض، طوفانا من الجليد المحموم.