فيسبوك أم فيكبوك!


لا توجد قوة على هذه الأرض قادرة على محاسبة فيسبوك لأنها خرجت عن السيطرة بعد أن تغير هدفها من تغيير العالم إلى حكم العالم.
في كل نقاش سياسي منذ أن بدأت فيسبوك بالسيطرة على الديمقراطية وضع عملاق التواصل الاجتماعي نفسه في الجانب الخطأ من التاريخ، وأصبح نافذة لبث الكلام السام والتشجيع على العنف والكراهية

اختارت صحيفة فاينانشيال تايمز مفردة فيكبوك “Fakebook” وهي تعلق على خبر قيام شركة فيسبوك بإغلاق 1.3 مليون حساب مزيف في الربع الأخير من العام الماضي. وهو رقم يساوي ما يقرب من نصف المستخدمين الحقيقيين النشطين شهريا.

ووفقا لبيانات الشركة نفسها فإنها تزيل مليون حساب مزيف كل بضعة أشهر، مع أنها تزعم أن خوارزميتها من بين أكثر الأنظمة التكنولوجية تقدما في العالم، لكن لا أحد يعرف من يدفع إلى إنشاء هذا الكم الهائل من الحسابات المزيفة، غير خوارزمية الشركة المشجعة على ذلك، من أجل المزيد من المستخدمين والإعلانات والأموال.

لدينا إمبراطورية رقمية مكونة من 2.8 مليار مشترك، وباعتراف الشركة نفسها يشكل خمسة في المئة منهم حسابات مزيفة أو مكررة أو تدار آليا وليس لأشخاص مُعرفين بأنفسهم.

ولو كان بمقدور محرر فاينانشيال تايمز اشتقاق مفارقة لغوية ساخرة من كلمة تويتر كما حول فيسبوك إلى فيكبوك، لفعل أيضا مع التقارير المعلنة عن قيام شركة تويتر بتعليق أكثر من مليون حساب مزيف ومشكوك فيه يوميا.

لذلك على الذين لا يفارقون حساباتهم على فيسبوك طوال النهار ألا يفرطوا في السعادة أكثر مما ينبغي وإن تفاعل مع ما ينشرون-بغض النظر عن أهميته- ملايين المستخدمين. لأنهم ببساطة يعرفون أن هناك ملايين الأصدقاء المزيفين يمتلكون وجوها مستعارة وغير حقيقية.

وأنا مثل غيري الكثيرين عبرّت عن “احتقاري” لفيسبوك لنفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها الأخبار المتعلقة بمس الخصوصية والتفاعلات بالابتسامات الوهمية والمجاملات الكاذبة واللغة الوضيعة، ناهيك عن البذاءة والشتائم والتنكيل والكراهية المعلنة. “هذا لا يعني أنني لا أراقب ما ينشر على مواقع التواصل بشكل عام”.

كما أن فكرة الصداقة الافتراضية كانت بغيضة بالنسبة إلى الروائي الألماني الراحل غونتر غراس، فمن لديه المئات من الأصدقاء على فيسبوك لا يوجد لديه أي أصدقاء، لأن التجارب الافتراضية الظاهرية على الإنترنت لن تكون بديلا عن التجارب المباشرة. واعتبر غراس آنذاك أن الفكرة التي تخضع للاتصال بصورة مستمرة، والتي ربما تتعرض للمراقبة، هي فكرة بغيضة، رافضا أن يكون جزءا منها.

إعلان شركة فيسبوك الأسبوع الماضي عن حذف أكثر من مليون حساب مزيف مناسبة مهمة للانتباه إلى الخطر الحقيقي الذي يداهم المجتمعات، ففي كل نقاش سياسي منذ أن بدأت فيسبوك بالسيطرة على الديمقراطية وضع عملاق التواصل الاجتماعي نفسه في الجانب الخطأ من التاريخ، وأصبح نافذة لبث الكلام السام والتشجيع على العنف والكراهية والعنصرية والطائفية.

شركة فيسبوك اليوم هي دولة عظمى مارقة خارج نطاق السيطرة، ويجمع أغلب المحللين التكنولوجيين ونسبة كبيرة من السياسيين على عدم وجود قوة على هذه الأرض قادرة على محاسبة فيسبوك لأنها خرجت عن السيطرة بعد أن تغير هدفها من تغيير العالم إلى حكم العالم.

الغريب أن العالم يبدو وكأنه منوّم مغناطيسيا حيال ذلك مع وجود من يثق بفيسبوك كمصدر حر وديمقراطي لتبادل المعلومات، بينما مصطلحا ما بعد الحقيقة والأخبار الزائفة كبرا وتضخما مع تضخم فيسبوك.

على مستوى آخر تخطط فيسبوك لتكون بنك العالم الأكبر مع الإعلان عن عملة رقمية، رغم أنها لم تجد لحد الآن من يتحمس لها. فمن سيثق بإيداع أمواله يكون فيه أمين الصندوق “فيكبوك”؟

لا يمكن اعتبار فيسبوك مرآة للأشخاص كما زعم نيك كليغ الذي هو بمثابة وزير خارجية الشركة العملاقة، بقوله “فيسبوك منصة أشبه بمرآة للمجتمع”، بل إنها سلاح غير مرخص وخارج نطاق السيطرة، وفي أيـدي 2.8 مليار شخص في جميع أنحاء العالم، وزناد مخترق من قبل عملاء سريين يعملون لصالح الدول والمافيات والأحزاب والتنظيمات المتطرفة. مع ذلك يعيش مارك زوكربيرغ حياته الطبيعية متمتعا بالثراء المادي الهائل الذي يحظى به في وادي السيليكون باعتباره صانع القرار الوحيد في شركة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل.

لا شيء مخيف أكثر من أن تتحول شركة فيسبوك إلى أكبر مستبد في العالم وقوة متعجرفة وشركة غارقة في الظلام لتبادل المعلومات المزيفة، فالتزييف المنتشر سواء بشخصية المستخدمين أو في نشر المعلومات هو مجرد جانب آخر من جوانب التكنولوجيا يقوض مصداقيتها ويحرف مهامها مع الدول ووسائل الإعلام والمجتمعات.

صحيح أن فيسبوك تشجع على المشاركة السريعة والضخمة في تداول الأخبار والاستحواذ على غرائز المستخدمين، لكن عن أي أخبار نتحدث؟ تجيب المحللة التكنولوجية جيميما كيسس: إنها حزمة ضخمة من القصص الزائفة والسطحية وخليط من الصور العائلية مع الصور الصحافية، ليس ثمة حديث عن سياسات تحريرية فيما يتداول على فيسبوك من أخبار.

مع ذلك يشعر الأميركيون، بوصفهم من بين أكبر شعوب العالم الرقميين، بأن وسائل التواصل الاجتماعي ثاني أكبر مصدر إخباري لهم بعد التلفزيون، حسب مركز بيو للأبحاث الذي ذكر في دراسة له أن الفئة العمرية ما بين 18 – 24 عاما ترى في فيسبوك مصدرها الإخباري الأول بعيدا عن المواقع الإلكترونية الأكثر شعبية لتداول الأخبار.

وهذا أمر سار لفيسبوك ولفكرة التزييف المستمرة والمتصاعدة إن لم تكن نوعا من العبودية المعاصرة متمثلة في إدمان المستخدمين لفيسبوك.

تزعم شركة فيسبوك أنها دفعت الملايين من الدولارات كمكافآت لعشرات الباحثين والخبراء التكنولوجيين من أجل كشف الثغرات الأمنية.

لكن ذلك ليس من أجل عيون الحقيقة التي يصبو إليها المجتمع، بل من أجل أن يكون جميع المستخدمين تحت سطوتها للتفاعل التجاري مع غرائزهم.

لذلك لم تعترف شركة فيسبوك بمعضلتها الأخلاقية مع المجتمعات وهي تعلن عن حذف أكثر من مليون حساب مزيف الأسبوع الماضي. فلم يكن التزييف قد حصل بهذا القدر لولا “فيكبوك”.