فيليب ميريوه يجدد الفكر البيداغوجي بـ'قضايا نظرية وتطبيقية'

الكاتب يطرح في عمله أسئلة مثل البيداغوجية والعلوم التربوية: هل كان ظهور العلوم التربوية إعلانا عن موت البيداغوجية؟

من هو البيداغوجي؟ ما الذي يميز المشروع البيداغوجي؟ ما المقصود بالمذهب البيداغوجي؟ ما العلاقة بين البيداغوجية والعلوم التربوية: هل كان ظهور العلوم التربوية إعلانا عن موت البيداغوجية؟ هل للأولى حق احتكار تطوير الفعل التربوي لوحدها؟ هل للفاعل البيداغوجي الحق في الانسحاب من البحت التربوي؟ وما أبرز العناصر المعرفية التي طرحتها البيداغوجية ولا تزال تعمق النقاش فيها معتمدة على تاريخها في البحث البيداغوجي العلمي؟.

هذه التساؤلات تشكل محاور دراسات هذا الكتاب "تجديد الفكر البيداغوجي.. قضايا نظرية وتطبيقية" الباحث فيليب ميريوه والذي ترجمه نورالدين البودلال وصدر أخيرا عن دار خطوط وظلال، والبداية من تعرف: من هو البيداغوجي، حيث يوضح ميريوه أن جون هوساي عرّفه بقوله أنه "ممارس ومنظر للفعل التربوي. إنه يسعى إلى الجمع بين النظرية والتطبيق من خلال فعله الخاص، للحصول على مزيج مثالي بين هذا وذاك، وهي المهمة التي لا غنى عنها لكنها في نفس الوقت مستحيلة بالكامل، "وإلا كانت البيداغوجية قد انقرضت". هناك فرق بالفعل لا يمكن تجاهله بين النظرية والتطبيق: إذ دائما ما تفلت الممارسة عن النظرية قليلا "فلا يمكنها أن تختزل إلى مجرد أشكال الفهم النظري الوحيد التي نمتلكها"، بينما تتجاوز النظرية دوما الممارسة إلى حد ما "إذ لا يزال من الممكن دوما إنتاج خطابات نظرية إضافية حول هذا الفعل أو ذاك". بالنسبة للبيداغوجي هناك إذن فجوة أساسية بين النظرية والتطبيق في هذه الفتحة المفغرة "التي تعمل في نفس الوقت، على التفريق والتجميع" تصنّع البيداغوجية".

ويقول ميريوه "قمت من جانبي بدراسة الخطابات التي أنتجها الممارسون- المنظرون حول الفعل التربوي والتي ميزت تاريخ البيداغوجية. فمن مذكرات الدكتور إتارItard Docteur الذي كافح لسنوات عديدة محاولا تعليم فيكتور دي لافيرون حين كان الجميع متفقين على اعتباره "غبيا منذ الولادة" إلى رسالة ستانز حيث بيستالوتزي، الذي جعلته الجمهورية الفرنسية مواطنا فخريا تحمّل مشاق تربية أطفال بؤساء واعدوانيين ينتمون لقرية خرّبها جنود مجلس الإدارة Directoire من الرجل الواقع في قبضة الأطفال حيث ألبير تييري المدرس الشاب التحرري الذي وهب نفسه كلية لتدريس الـ "ثقافة التحررية"، يتساءل إن لم يكن ملزما على نزع صفة تميز décaractériser ضحاياه" إلى شعر بيداغوجي حيث يحكي ماكارينكو لماذا يتوجب عليه، في مخيم غوركي الذي أسسه بعد الثورة البولشيفية مباشرة أن يمنع المربين المشتغلين معه من استشارة ملفات اللاجئين حتى "لا يكونوا سجناء ماضيهم".. ومن كيف تحب طفلا حيث يشرح يانوسك كوتزاك الذي ألف أول "إعلان عن حقوق الطفل" كيف يبتكر، بملاجئ الأيتام التي أنشأها، القيود التي تبيح طفو الحرية إلى الطفل المبهور حيث جيرمان تورتيل قامت بوصف تلاميذ الروضة الذي وصلوا جماعة إلى مرحلة التعبير الفني المطلوب بشكل متزايد.. من التربية العملية التي يقوم فيها سيليستان فريني "بالعودة إلى مدرسة حكماء قريته" لتقديم تربية "تبدو وكأنها الحل المستقبلي للمشاكل المأساوية المستعجلة لإعداد للأجيال الناشئة" إلى الطفل حيث تجمع ماريا مونتيسوري بين المعارف الطبية والبيولوجيةا والأفكار الفلسفية والتجارب البيداغوجية لمناقشة، بلمساة صغيرة، المشكلات الحياتية لتربية الأطفال.

ويتساءل ما الذي يميز المشروع البيداغوجي؟ ويقول " إنها بعض النصوص الأكثر رمزية والأكثر تمثيلية أيضا، لـ "نموذح أدبي" غريب يمزج بين الشهادات والفلتات الشعرية، الرؤى الفلسفية والوصفات التقنية. هذه الأعمال بعيدة كل البعد عن اطروحات العلمية التي تفتح الطريق في وجه الإقرارات الأكاديمية، لكنها مع ذلك أعمال تركت بصمات دائمة في المؤسسات والممارسات التربوية، أعمل ما يزال الاتصال بها قادرا، اليوم كذلك، أن يشكل حدثا لقارئها. والواقع أن هذا النموذج يواجه بها بشكل مباشر "مصنع" للبيداغوجية، ذاك الذي تحدث عنه جون هوساي. به يكتشف كائنات هم، مثله، يصارعون أطفالا عليه مرافقتهم ليستوعبوا العالم ويساهموا في تجديده، يراهم يواجهون، مثله، تناقضات، متأرجحين بين ترقب ميسر ونفاذ صبر طوعي، مبحرين في الأفق لتجنب، في ذات الوقت، الاستقالة والتلاعب، محاولين، في نفس الوقت، الإشارة إلى الوجهة الواجب اتباعها والتكوين على الاستقلالية.

ويرى ميريوه أنه لا يمكن لأي بحث مهما كان موثقا أن يقدم صورة كاملة عن هذه التجربة التربوية: يمكننا فقط تقاسمها. ومن الضروري أن نتقاسمها. كلك حتى يمكننا فهم ما يحدث لنا. حتى لا نعتقد يوما أننا الوحيدين الموجودين في طريق مسدود. حتى لا نقضي حياتنا في تجريم أنفسنا. وحتى لا نتهم أيضا الآخرين والأرض جميعها كونهم ألقوا بنا في مطبات يصعب التغلب عليها... علينا فهم ما يحدث هنا، فيما هو، في نفس الوقت وبشكل مترابط، قابل للنقل والتحرر، علينا فقط مرافقة الذين ـ بعد أن وقعوا في هذه المعضلة ـ لم يكتفوا فقط بإلغاء أحد المصطلحين وإبعاد أولئك الذين يمثلونه ويطبقونه مستخدمين بشكل مسئ تيع صورا كاريكاتورية متعارف إليها: "طاغية" أو "متساهل" أو "سلطوي"، أو "مستتقيل"، "محافظ ضيق الألفث" أو "بيداغوجي را سخ"!. لابد من محاولة فهم لماذا وكيف لم يستطع بيستالوتزي وفرينيه وكل الآخرين الدخول ضمن هذه الفئات، لماذا وكيف نجحوا من الإفلات من التوتر العصبي تجاه أحد قطبي التوتر المؤسس للمشروع التربوي، دون السقوط، مع ذلك، في التذبذب الذهاني بين هذا وذاك.

ما المقصود بالمذهب البيداغوجي؟ يجيب أن البيداغوجية هي "فن ممارسة" بحسب تعبير ميشيل سيرتو، وإن عملنا على تفحص الخطابات البيداغوجية عن كثب سنجد سريعا أم "فن ممارسة" هذا يعبر عن ثلاثة أقطاب بطريقة مميزة: قطب الغايات: التي يمكنها أن تكون دينية، فلسفية أو سياسية ـ قطب المعارف: المتعلق بتعلمات ونمو الطفل، أو وسطه الاجتماعي أو بنياته المعرفية، وأخيرا قطب الممارسات المكون من مجموعة من المقترحات المتعلقة بالمؤسسات والطرق والوسائل. يعمل البيداغوجي وفقا لمشروع، يحشد له معارف ويستعمل الوسائل بعدما يحددها في جملتها هو بنفسه. وأيا كان المدخل المحبذ، فلا يمكن اتخاذ أي إجراء إلا إذا تم التمكن من الحفاظ على هذه المكونات الثلاثة مجتمعة، وذلك بأفضل الطرق الممكنة وبالقدر الكافي من الوضوح.ويضيف ميريوه أن كل مذهب بيداغوجي هو تشكل خاص من المرامي، والمعارف التي تحقق استقرارا من خلال إيجاد تماسك ممكن بين هذه المكونات الثلاثة، تماسك يجعل هذا التشكل ممكنا لكنه لا يجعل منه نظاما متجانسا يفرض نفسه ولا يسمح بأي نقاش حوله. فالقيم التي نريد تعزيزها والوقائع التي نقرها والوسائل التي نقترحها لها إطارات شرعية غير متجانسة: تأخذ القيم مشروعيتها من التأمل الفلسفي والسياسي، والوقائع من مبرهنات بلورتها الـ "العلوم الإنسانية" والوسائل من قدرتها على تغيير الواقع. ذلك أن القيم تنتمي لمجال المرغوب فيه، والوقائع لمجال الحقيقة العلمية والطرق لمجال الفعالية البراغماتية. أن يكون كل هذا منسجما وبشكل، في لحظة معينة، مذهبا بيداغوجيا يمكن استخدامه لتربية أطفالنا فذاك، بشكل من الأشكال يحقق معجزة.

ويؤكد أن العلاقة بين علوم التربية البيداغوجية ليست علاقة بسيطة، والتفكير في هذه العلاقة اليوم أمر هام جدا أكثر من أي وقت مضى. التفكير السليم وحده القادر على أن يزرع لدينا الأمل في تجاوز الجدالات العقيمة التي نشأت، على مدى السنوات القليلة الماضية، حول هذا الموضوع والتي ـ باستنزافها طاقات مهمة، ساهمت بشكل كبير في "خلط الأوراق" داخل الحقل التربوي.

ويلفت إلى أن البيداغوجية باعتبارها خطابا أدبيا، أو بتعبير أوضح، "خطاب حول حقائق تربوية وسطي"، كما قال دانييل هاملين، تقدم من دون شك أدوات تيسر لنا فهم الشيئ التربوي بفعالية: إنها تحيلنا على تناقضات إزاء أطفالنا وتلامذتنا، وقبل كل شيئ إلى هذا التناقض المتجدد باستمرار بين نظرياتنا وممارساتنا؛ إنها تسمح لنا بالعيش بطريقة أقل فردانية وبمزيد من الوضوح هذه "المهنة المستحيلة" التي يتحدث عنها فرويد إياها، تحديدا، بالتربية. هكذا، وعلى نحو لا يخلو من مفارقة، تجد المذاهب البيداغوجية في هشاشتها قيمتها، وطابعها الإصلاحي الترقيعي العنيد، ورغبتها في التفكير المشترك في الأبعاد التي يفكر فيها، عموما، ضمن مجالات مختلفة لا صلة بينها. وفي الوقت الذي يبدو يبدو فيه هذا الجانب، المركب والغريب بصورة مشروعة، عائقا لارتباط بخطابات جذابة ومتجانسة تنتجها مجالات أخرى، يغدو في هذا السياق ذا ميزة كبيرة: إنه في إطار التعقيد المفترض، بين حقائق يجب على المربي أن يتعامل معها، بشكل متزامن خلال الفعل.