تعدد الزوجات في 'ندبات' دالي ميشا توريه
تتناول الكاتبة الفرنسية من أصل مالي في روايتها الثانية "ندبات" بحساسية عالية قضية تعدد الزوجات في فرنسا بين الجاليات المسلمة قبل صدور قانون القانون تعدد الزوجات عام 1993، حيث لم تعد الدولة الفرنسية تصدر تصاريح إقامة للأجانب متعددي الزوجات. إلى جانب ذلك تشتغل على قضايا مثل قضية عدم التواصل والمعاناة التي تنجم عنها بين العائلات، والتنمر الذي يعانيه أصحاب البشرة السمراء.
تحكي الرواية التي ترجمها صابر رمضان وصدرت عن دار العربي قصة فتاة مع عائلتها المكونة من ثلاثة وعشرين فردًا ذي أصول أفريقية ويعيشون في إحدى ضواحي باريس. وهنا تجسيد لمشاعر طفلة ولكل ما تمر به وهي تحكي علاقتها مع أخواتها والمقربين منهم, علاقتها مع أمها وزوجات أبيها الثلاثة الأخريات، علاقتها مع زملائها في المدرسة وأصدقائها، وخصوصًا علاقتها مع أبيها الذي كان له الأثر الأكبر في "ندباتها" النفسية. ففي كل التفاصيل التي تكتبها لنا، نشعر بالندبة تلو الأخرى التي لا يمحوها الدهر بسهولة من إثر معاناتها مع كل مَن حولها بدءا من قسوة الأب، الانضباط الصارم، وصعوبات المدرسة وعصابة الأصدقاء والانحرافات النادرة لمرحلة المراهقة.. هذه التفاصيل المشتتة الأشبه بشظايا تحاول أن تحكيها لنا لتخفف من ندباتها.. تتساءل الفتاة كيف تمكن والدها متعدد الزوجات من تنظيم نفسه. وتروي الضربات التي يوجهها لها والدها متعدد الزوجات، والدتها الغافله، الاستهزاء الذي تعاني منه من إخوتها وأخواتها، قلة التواصل في هذه العائلة الكبيرة، الشجار بين الزوجات. إنها قصة طفل بنظرة طفله، إنها فتاة ضائعة تحب والديها وتكرههما أيضًا.
يعطي الأسلوب البسيط والمباشر والنص المكتوب بضمير المتكلم الانطباع بأن الراوي هو المؤلف. وهو ما تنفيه دالي ميشا توريه مؤكدة أنها نشأت وسط عائلات ينتشر فيها تعدد الزوجات، وأردت حقًا التحدث عن ذلك. حيث يمكن للكاتب أن يكتب بعمق عن شيء لم تجربه. إننا نفترض دائمًا أن القصة التي تكتب بعمق كاشفة لحيوات الشخصيات هي سيرة ذاتية، لماذا ألا نستطيع أن نخلق خيالًا مبدعا من واقع ما يحيط بنا؟
وتقول "إنها شخصية اخترعتها واستلهامها من حياتي وحياة الآخرين. البطلة ليست أنا. لقد ألهمتني الشخصيات من حولي الذين مروا بمواقف مماثلة والذين وثقوا بي كثيرًا لأبدع هذه الرواية. عادةً ما تكون لشخصياتي هوية محددة. هناك، من لم أرغب في أن أعطيه اسمًا، ولا أن أجسده في سياق محدد حتى يتمكن الجميع من التعرف عليه. لم أكن أرغب في قفل شخصيتي في منطقة ما".
وتلفت "في الواقع، الكتابة هي ما أشترك فيه مع الراوي. لقد كنت أكتب القصص منذ أن تعلمت الكتابة في المدرسة، كانت دائما متنفسا لي. بالنسبة للراوية، كان المخرج من ندوبها هو الكتابة. لقد قادت هذه الندوب وحولتها إلى قوة. إن الندبات الجسدية يمكن أن تختفي في غضون أسابيع قليلة أو حتى أيام ولكن الندوب العقلية والعاطفية يمكن أن تستغرق شهورا أو سنوات أو حتى لا تختفي أبدا".
وتوضح توريه "حاولت أن أصنع قصة مؤثرة للغاية ومضحكة ومليئة بالعواطف في نفس الوقت. لقد ألهمني محيطي والمواقف التي تمكنت من مواجهتها، من خلال تعميق رؤيتي لسلوك الأشخاص من حولي والعلاقات المختلفة المحتملة بين الوالدين والعواقب التي يمكن أن تحدثها على الطفل. أنني أتحدث عن تعدد الزوجات، ولكن لا أتحدث عن تعدد الزوجات سلبا أو إيجابا. أنني أتحدث عن تعدد الزوجات كما هو، بمزاياه وعيوبه، بثرائه وفقره. بهذه الطريقة يمكننا أن نأخذ خطوة إلى الوراء ونرى العيوب لتحسين أفضل. لقد استمتعت حقا بكتابة هذه القصة. لقد انزلقت حقا في جلد هذه الفتاة الصغيرة".
مقتطف من الرواية
في سن الرابعة عشرة، بدأتُ أتقرب من أختي "خادي"، لا أدري كيف حدث ذلك، لكنه حدث في النهاية. كنا نضحك معًا، وتحكي كل واحدة منا يومها للأخرى. كنا نعيش حالة من التفاهم جعلتني أتساءل؛ كيف كنا نتجاهل بعضنا طيلة كل هذه السنوات؟ أخبرتني أن لديها حبيبًا تحبه كثيرًا، كان في العشرين من عمره، أما هي فقد كانت تبلغ ثمانية عشر عامًا. تمنت أن تتزوجه فقد كانت متيمة به حقًا، إلا إنه لسوء حظها لم يكن من أصولنا نفسها رغم أنه مسلم. كانت "خادي" تعلم أن والديَّ لن يوافقا على هذه الزيجة أبدًا. لدى أبي مبادئه الخاصة به؛ كان علينا أن نتزوج من أشخاص من أصولنا نفسها، من قريتنا نفسها، ومن عائلتنا نفسها إن أمكن. لم يكن يريد الأوروبيين ولا العرب ولا حتى السود الذين يشبهوننا.
كان على أختي أن تختار بين أمرين كلاهما صعب؛ إمَّا أن تتزوج الإنسان الذي أحبته وتترك البيت وتضحي بأهلها وتقطع علاقتها بهم، أو أن ترضخ لإرادة أبي وتترك حبيبها، ثم تتزوج إنسانًا لا تعرفه ولا تحبه. لكن ماذا ستفعل إن وقعت خلافات بينها وبين زوجها؟ إلى مَن ستلجأ بعد أن قطعت علاقتها بأهلها؟ لا شك أن والديَّ لن يسمحا لها أبدًا بالعودة إلى البيت، وسيرون ساعتها أنها تستحق كل ما حدث لها، وستجد نفسها وحيدة بلا سند، وإن اختارت الزواج من رجلٍ مفروض عليه ألا تعرفه، فهناك احتمال كبير أن تتحول حياتها إلى جحيم، ولن تستطيع أن تطلب الطلاق، بل سيكون عليها أن تتحمل هذا الزوج وأهواءه طيلة حياتها.
وهنا أتساءل: لماذا يجب على الإنسان أن يحافظ على علاقته بأناس لا يحترمونه، بل يسخرون من فكره ومشاعره؟ وماذا لو كان هؤلاء الناس هم أهلك، لحمك ودمك، الذين كبرت وسطهم؟
كنتُ أراها دائمًا شريدة الفكر وحزينة لأنها كانت تحبه حقًا، لكنها في الوقت نفسه تخشى أن تتزوجه وتترك أهلها. عاشت إحدى بنات أعمامنا القصة نفسها، حيث اختارت الرجل الذي أحبته، لكنها سرعان ما ندمتْ على هذا الاختيار؛ كان زوجها يعلم جيدًا أنه ملاذها الأول والأخير، لذلك كان يستغلها ويعاملها بشكل سيئ، بل وصل الأمر إلى حد الإهانة والضرب. اضطرت إلى البقاء في هذه العلاقة المدمرة وقتًا طويلًا، لكنها لم تستطع الاستمرار وعادت إلى بيت أهلها بعد أن طلبت منهم العفو والسماح. أتذكرُ جيدًا أنها عندما علمت بقصة أختي "خادي" اتصلت بها كي تقنعها بعدم ترك البيت. وقالت لها:
- لا تقلقي، ستجدين رجلًا آخر يناسب والديكِ ويناسبكِ في الوقت نفسه.
انتهى الأمر بـ"خادي" أن تركتْ حبيبها وظلتْ معنا في البيت. كانتْ قلقة جدًا بشأن هذه المجازفة.
كنتُ أحدثها أحيانًا عن أبي. قلتُ لها ذات مرة:
- أود أن أسألكِ سؤالًا يا "خادي"، برأيكِ، هل تعتقدين أن أبي يحبنا؟
- بصراحة، لا أعرف، لكنني أظن أنه يحبنا. ربما لديه طريقة غريبة في إظهار هذا الحب لنا، لكنني أعتقد أنه يحبنا. وأنتِ، ما رأيكِ؟
- أعتقدُ أنا أيَضًا أنه يحبنا، لكن لا أدري لماذا يعاملنا بهذه القسوة والجفاء؟!
- لا شك أنه يريد تربيتنا على أحسن وجه، لكنه يجهل الطريقة. أنا أيضًا، عندما كنتُ في عمركِ نفسه، كنت أطرح على نفسي هذه الأسئلة. لكن لم أعد أفعل ذلك الآن، فهذه أسئلة لا تجدي نفعًا.
******
كان أبي قاسي القلب معي، لكن عليَّ أن أتحمله، أٌقنعتُ نفسي أن الأمر طبيعي. كنتُ أحاول إقناع نفسي أن عائلتي لا تهمني في شيء، وكل ما يحدث معي إنما هو أمر طبيعي. حاولتُ أن أظهر بمظهر الفتاة القوية التي لا تكترث لشيء.
والحقيقة أنني كنتُ أبكي بداخلي كل يوم. كنتُ أود أن يُظهر لي والداي حبهما، وأن يكف إخوتي عن ضربي، وأن تتوقف زوجات أبي وأمي عن العراك ليل نهار؛ لم أعد أتحمل العيش في ظل هذا الكذب والجهل. كنتُ أتمنى أن أعيش طفولتي كأي طفل في العالم، أعيش أحلامي بدلًا من أن أحلم بالعيش. كنتُ أود أن أحرق تلك الندبة، أخفيها تمامًا من حياتي؛ تلك الندبة هي الكراهية. عقدتُ العزم على أن أتخلص منها يومًا ما.
أصبحتُ مرتبطة بعائلتي لدرجة أنني صدقتُ أنهم يحبونني. كان الأمر مشوشًا تمامًا، لم أستطع أبدًا أن أصف إحساسي ومشاعري تجاههم، ولا مشاعرهم تجاهي.
رغم كل هذا، كان هناك شخص واحد في حياتي، يمكن أن أعتمد عليه. فهو الوحيد الذي يرى أنني أحيا حياة غير عادلة، ولا يدري لماذا لا يحبني الناس من حولي.
- تعرفين، لو كان الأمر بيدي لطلبتُ من والديَّ أن يتبنياكِ كي تستطيعين العيش معي.
- هذا لطف منكِ يا "كامِي"، أنا أيضًا أتمنى أن أعيش معكِ. أنتِ حقًا أختي التي لم تلدها أمي.
- كثيرًا ما أفكرُ فيكِ، ويؤلمني ما تفعله معكِ أسرتكِ، رغم أننا لا نملك إلا أسرة واحدة وليس لنا يد في اختيارها، لكنني واثقة أن السعادة ستطرق بابكِ عاجلًا غير آجل، وأن كل اللحظات التعيسة التي تعيشينها ستكون في طي الماضي.
- نعم، لديكِ كل الحق بكل تأكيد.
عندما أكون معها، أشعر أنني إنسانة كبقية البشر. كانت تثني عليَّ وتعتبرني مثلها تمامًا، كنتُ أجد نفسي معها حيث لا أكون تلك الفتاة العنيفة الوقحة.
لقد ساعدتني على الصمود والتماسك، لكن معنويًا، كنتُ أزدادُ سوءًا فوق سوئي.
******
لم يعد يكترث أحد لأمري منذ سن الخامسة عشرة. تزوج إخوتي، وحزم معظمهم حقائبهم وسافروا. وأخيرًا، أصبحت لديَّ غرفة خاصة بي بعد أن تزوجت بعض أخواتي. كان أبي منشغلًا برحلاته التجارية في الخارج، أما أمي فكانتْ متعبة في معظم الأحيان. كانت "جينابو" دائمًا هي الزوجة المفضلة لدى أبي، إلا إنه مع ازدياد فترات غيابه عن البيت لم يعد يهتم بها كسابق عهده. قلَّت الخلافات في البيت بشكل ملحوظ، وأصبح الجميع يتمتع بنوع من الحرية لم نعهده من قبل. لم تعد أمي قادرة على السيطرة علينا. أما زوجات أبي، فلم يعد لديهن قوة ولا طاقة للتشاجر؛ أصبحن يقضين أوقاتهن في مشاهدة التليفزيون والطبخ والتنظيف والحديث مع بعضهن. كان من الرائع حقًا أن أجد البيت هادئًا مستقرًا عندما أعود من المدرسة، باستثناء بعض الضوضاء بسبب ركض إخوتي وأخواتي الصغار في أنحاء الشقة.
كبرتُ وتعلمتُ معنى الحياة، لكنني لم أكن أهتم بنفسي وأنوثتي، لأنني لم أجد واحدة ممَن حولي تهتم بأنوثتها، ولم أجد أيضًا مَن يعلمني كيف أهتم بأنوثتي، لذلك عانيتُ من أزمة المراهقة، التي استمرت لستة أشهر، كانت أسوأ فترة في حياتي.