في انتظار سياسة عراقية لادارة بايدن

ليست خريطة المنطقة التي يعاد رسمها هذه الايّام. هناك إعادة بحث في تركيبة المجتمع في دول عدّة.
بعد سقوط العراق، بات في استطاعة ايران التحرك بحرّية اكبر في سوريا
ليس العراق وحده الذي عانى من التغيير الذي احدثه الاميركيون في العراق
ادارة بايدن لا تجيب على سؤال في غاية البساطة: هل تمتلك سياسية عراقية أم لا

بعد مضيّ 18 عاما على الاجتياح الأميركي للعراق، تقف إدارة جو بايدن حائرة حيال ما يفترض بها ان تفعله بعدما تسببت ادارة جورج بوش الابن بزلزال لا تزال تفاعلاته تتردد في المنطقة كلّها. أيّ عراق بعد الانسحاب العسكري الأميركي في غضون اشهر قليلة؟ لا جواب واضحا باستثناء ان ايران تزيد من ضغوطها لاثبات انّها اللاعب الاوّل في هذا البلد وأن لا مجال للعودة الى واقع يتمثل في انّ العراق هو العراق وايران هي ايران.

في أساس الزلزال الذي تجاوز حدود العراق، ان الإدارة الأميركية السابقة، إدارة بوش الابن، لم تدرك في العامين 2002 و2003 النتائج التي ستترتّب على اجتياح العراق عسكريا واسقاط النظام فيه. لم تدرك معنى تقديم العراق على صحن من فضّة الى ايران. أقدمت على العمليّة العسكرية في العراق من اجل اسقاط نظام، كانت هناك حاجة الى اسقاطه، ولكن ليس بالطريقة التي اعتمدها بوش الابن وكبار مساعديه الذين رفضوا نصائح بالتريث قدّمها لهم قادة مستنيرون يعرفون المنطقة. في مقدّم هؤلاء الملك عبدالله الثاني الذي اجتمع بالرئيس الاميركي في آب – أغسطس من العام 2002. وقتذاك، حذّر العاهل الأردني الرئيس الأميركي من النتائج التي ستترتب على حرب العراق. لكن بوش الابن رفض حتّى ان يستمع الى النصيحة...

ما انهار في المنطقة ليس العراق وحده الذي جاء اليه الاميركيون بميليشيات مذهبيّة عراقية قاتلت في الماضي الجيش العراقي. عاد قادة تلك الميليشيات من ايران الى بغداد على ظهر دبّابة اميركيّة. اذا بهؤلاء في الوقت الحاضر الطرف العراقي الاشدّ عداء للسياسة الاميركيّة. لم يعد "الحشد الشعبي" الذي هو تحالف بين ميليشيات مذهبيّة تابعة لايران سوى أداة ضغط ايرانيّة على اميركا في العراق! 

المخيف في الامر أنّ ليس العراق وحده الذي عانى من التغيير الذي احدثه الاميركيون في العراق. فمع توفر انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني، تعرّض لبنان لضربة قويّة يمكن ان تقضي عليه. يمكن في الوقت الراهن التساؤل متى انتهى لبنان الذي شهد في بداية تسعينات القرن الماضي محاولة يتيمة لانقاذه على يد رفيق الحريري، المعروف من اغتاله، بعد مرحلة الحرب الاهليّة التي بدأت في 13 نيسان – ابريل 1975؟

يمكن القول ان لبنان انتهى قبل ذلك، أي مع توقيع اتفاق القاهرة في تشرين الثاني – نوفمبر 1969 لدى تخلي الدولة عن جزء من سيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكنّ الواقع الراهن يشير الى ان لبنان صار جزءا من الماضي وطويت صفحته في ضوء وصول ميشال عون الى موقع رئيس الجمهوريّة في 31 تشرين الاوّل – أكتوبر 2016 وانهيار كلّ القطاعات التي قام عليها البلد الذي صار يحكمه "حزب الله"، أي ايران. ما كان للبنان ان يسقط تحت الوصاية الكاملة لـ"الجمهوريّة الاسلاميّة" لولا استقواء "حزب الله" عليه وعلى اللبنانيين. يعود ذلك قبل ايّ شيء آخر الى ما حدث في العراق في العام 2003 وليس في ايّ مكان آخر.

يجرّ الحديث عن لبنان الى الحديث عن انهيار سوريا. متى انهارت سوريا؟ اذا عدنا الى التاريخ، انهارت سوريا مع اعلان الوحدة مع مصر في شباط – فبراير 1958 وهي وحدة ترافقت مع القضاء على ايّ امل في انقاذ البلد من السقوط تحت هيمنة نظام امني كان عبدالحميد السرّاج رمزه. كانت تجربة الانفصال (1961 – 1963) الفرصة الوحيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا. لكن حزب البعث، بفكره المتخلّف، وفّر الغطاء لاستيلاء مجموعة من الضباط على السلطة تمهيدا لقيام نظام اقلّوي ما زال قائما منذ العام 1970. إنّه نظام لا همّ له سوى تحويل السوريين الى مجرّد عبيد لديه والقضاء على كلّ امل في ان تكون سوريا في يوم من الايّام دولة طبيعيّة ومنتجة...

تكرّس الانهيار السوري مع سقوط العراق. بعد سقوط العراق، بات في استطاعة ايران التحرّك بحرّية اكبر في سوريا. ازالت الحدود بين العراق وسوريا وبين سوريا ولبنان.

متى انهار العراق نفسه؟ انهار عمليا في 14 تموز – يوليو 1958 عندما وقع انقلاب عسكري ارتدى طابعا دمويا قضى على الاسرة الهاشمية، على رأسها الملك فيصل الثاني الذي كان لا يزال شابا والذي كان شخصيّة واعدة. لم ير العراق يوما ابيض منذ تخلّص ضباط متعطشون الى العنف والدمّ من اسرة كانت قادرة على الجمع بين العراقيين من كلّ المذاهب والديانات والقوميات وكانت عنوانا للانفتاح على كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. جاء البعث العراقي ليستكمل ما فعله العسكر صيف العام 1958. مهد البعث، بمغامراته العبثيّة، لحرب أميركية قضت نهائيا على العراق. تبدو استعادة العراق مهمّة صعبة لكنّها غير مستحيلة، خصوصا اذا تخلّص العراق يوما، بفضل اعجوبة ما، من فرقة المزايدين من المتاجرين بالقضيّة الفلسطينية من جهة واذا أمكن رفع اليد الإيرانية عنه من جهة أخرى.

ليست خريطة المنطقة التي يعاد رسمها هذه الايّام. هناك إعادة بحث في تركيبة المجتمع في دول عدّة. على سبيل المثال وليس الحصر، هل يمكن للبنان ان يستمرّ واقفا على رجليه في حال صار "حزب الله" من يختار رئيسه المسيحي، على غرار ما حصل مع ميشال عون؟ هل من امل لسوريا في العودة الى بلد موحّد من دون خمسة احتلالات يعتبر النظام السوري ثلاثة منها، أي الإيراني والروسي والإسرائيلي، الممتد منذ حزيران – يونيو 1967، اكثر من طبيعي. كان هذا الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال، الضمانة الأولى لنظام لم يرد يوما استعادة الجولان!

لن يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في المنطقة قبل وضوح الصورة في العراق حيث لا يزال امل في استعادته دوره كنقطة توازن في المنطقة وليس مجرّد "ساحة" ايرانيّة.

لا مكان لكثير من التفاؤل، على الرغم من الجهود الدؤوبة لحكومة مصطفى الكاظمي، خصوصا ان إدارة بايدن لا تمتلك، الى اشعار آخر، أي جواب على سؤال في غاية البساطة. هل تمتلك سياسية عراقيّة أم لا؟