في ذكرى العبور نحو البقاء

لا شيء تغير في العقلية المسيرة للسياسة في بغداد بشأن الأكراد.

بعد تغيير النظام في العراق، عمل الكرد بجد لبناء عراق جديد، وشاركوا بفاعلية في صياغة دستور يضمن ويحمي حقوقهم وحقوق جميع العراقيين. وظنوا أن السلوكيات والممارسات المتخلفة والإتهامات والمزايدات المهيجة والمستفزة ستختفي من القاموس السياسي والإعلامي العراقي بشأن مجمل الإستحقاقات الكردستانية، لكنهم تفاجأوا بإستمرارها، بل وزيادتها بوتائر كبيرة وسريعة عبر سياسات مذهبية وشوفينية ونعرات قومية جديدة تجسدت في الإنقلاب على الشراكة، والإلتفاف على الدستور ومخالفته، وتخطي وتجاوز الاتفاقيات السياسية، ومحاولة إغتصاب حقوق الكرد المتعارف عليها، وثني عزيمتهم والضغط عليهم بممارسات تحمل الغل والعداء لإقليمهم وتأريخهم.

وبعد سنوات عجاف، إحتدم الصراع بين إقليمهم والحكومة الإتحادية، وإنتقل الخلاف، الى مراحل حرجة ومستويات خطرة، والى تضارب المصالح، ولكن حكمة وذكاء القيادة السياسية الكردستانية وتحليها بالعقلانية والصبر، بددت المخاوف وأنعشت الامال، وإتجهت الجهود نحو البحث عن حلول للمشكلات. وبدأت بإزاحة نوري المالكي عن السلطة، وتشكيل حكومة عراقية جديدة برئاسة حيدر العبادي. شارك الكردستانيون فيها، وتم التوقيع على إتفاقات حظيت بترحيب واسع من أطراف وطنية وإقليمية ودولية، إتفاقات تفتح الطريق للبدء بوضع حلول عادلة للقضايا العالقة بين أربيل وبغداد، ولمد جسور الثقة بين الطرفين بعد سنوات من الشكوك والخلافات، وردم هوة الانقسام ومعالجة الأخطاء، والدفع باتجاه توحيد الصفوف من اجل التفرغ للمعركة المصيرية ضد داعش الإرهابي وإبعاد البلاد عن الكوارث.

ولكن للأسف الشديد، عاد الحكام في بغداد، مرة أخرى، الى عاداتهم القديمة وبدلاً عن السعي في سبيل التلاشي التدريجي للأفكار السلبية وقصصها المأساوية في كل المجالات والصور المقولبة لها في أذهان الكردستانيين، لجأوا الى إجراءات إستفزازية وغير دستورية وغير قانونية والى التهديد والترهيب، وحاولوا تكرار الماضي الأليم، تارة بدعم المعادين للكردستانيين وتارة بقطع أرزاقهم وتارة أخرى بمحاولة تفتيت صفوفهم وقولبة كيانهم الدستوري.

كانت لتلك المواقف والاجراءات وقع الصاعقة على الكردستانيين، وجعلتهم يشعرون بعمق المأساة ومرارة التعايش مع أناس لا يؤمنون بالتعايش السلمي. وفرضت عليهم الإلتفات الى أن الخطر الذي كان يهددهم منذ بداية تأسيس الدولة العراقية مازال قائماً، وأن الثقافة العدائية تجاههم متأصلة في النفوس المريضة، كما إستوجبت إعادة النظر في علاقاتهم مع الآخرين، وفرضت عليهم عدم التغاضي عما قيل من تصريحات وما أعلن من مواقف وما جرت من أحداث، والتوقف لبحث العلاقات بين مكونات بلد كان تأسيسه مبنياً على إفتراضات خاطئة.

وعندما قرر الكردستانيون العبور نحو البقاء وإجراء الاستفتاء في الـ 25 من أيلول/سبتمبر 2017، للتعبير عن رأيهم ورغبتهم في تقرير مصيرهم، في أروع تظاهرة سلمية ديموقراطية شهدتها المنطقة، وأوصلوا أصواتهم الى أسماع العالم وحققوا واحداً من أكبر الانجازات الوطنية والقومية. أهاج روح العصبية القومية والكراهية المذهبية والشوفينية عند المتناحرين والمتنافرين فيما بينهم والمتحدين ضد التطلعات الكردستانية، وأعادهم الى حقدهم الاعمى الذي هو الأساس في تعاملهم مع الكرد والقضية الكردية، وراحوا يصبون جام حقدهم الأعمى وبغضهم المسموم على الموقعين على قرار إجراء الإستفتاء والمتجهين نحو صناديق الإقتراع، وإنقلبت المعادلة في نفوس الذين تسري في عروقهم الجهل والغباء، والذين لم يستفيدوا من تجارب الماضي وآلام الحاضر والتخوفات من المستقبل، بل من التاريخ كله.

اتخذت الحكومة العراقية وبرلمان بغداد، خطوات كثيرة لتعطيل ذلك المسار المنسجم مع الدستور العراقي، وتجاهلت الحقائق وممارسة أساليب عنصرية بشعة وخبيثة للنيل من وجود وإرادة الكرد، وقد كانت لتلك الخطوات تداعيات سلبية أكبر وأخطر من تداعيات إجراء الاستفتاء نفسها وخلقت شروخاً جديدة وكبيرة بين الكرد والعرب وعلى جميع المستويات الرسمية والشعبية. وفي ظل الصمت الدولي المخزي المتعارض مع كل مبادئ حقوق الانسان، تعرض الكردستانيون للتآمر العنصري المحلي والاقليمي النتن، وتم اجتياح 51% من أراضيهم من قبل الذين لا يؤمنون بأي حق ديمقراطي ولا يعترفون بالوسائل السلمية للتعبير عن الرأي.

حكومة إقليم كردستان، حقناً للدماء إختارت عدم اللجوء الى القوة، وقررت تجميد نتائج الإستفتاء، ولم تلغها لأنها لا تستطيع فعل ذلك، كما قررت إستمرار التواصل والحوار والتفاهم مع بغداد، ولكن من في بغداد الآن، مع يقينهم التام بأن نتيجة الاستفتاء وإنتصاره الساحق قد دخل التأريخ من أوسع أبوابه كوثيقة قانونية لا يمكن بأي حال من الاحوال التنازل عنها أو الغاؤها فإنهم ما زالوا يتعنتون ويريدون فرض آرائهم الخاطئة وعرقلة تنفيذ الدستور

هؤلاء لا يفهمون حقائق الأمور الواضحة والصريحة، وربما لا يريدون قراءة الأمر الواقع ومواجهة المرحلة حسب وجهة نظر منطقية ومعالجة مشكلة قديمة بعمر الدولة العراقية. لذلك مازالوا يحاولون العودة إلى الوراء، وما زلنا نسمع منهم كل يوم شعارات جوفاء ومزايدات سياسية رخيصة لتأجيج الفتن، وما شاهدناه خلال مناقشة قانون الموازنة قبل أشهر، وما نشاهده من التسويف والتهرب من دفع رواتب ومستحقات موظفي وفلاحي كردستان خير دليل على عدم تشخيص الأخطاء والنواقص ومكامن الخلل وعدم وضع الأصبع على الجرح لدرء المخاطر وتحمل المسؤولية بأعذار متضاربة.

ملاحظة

"كردستان، العبور نحو البقاء" عنوان كتاب قيّم للكاتب والصحفي بختيار شاخي، صدر في الذكرى الثانية للإستفتاء، يضم أكثر من 700 صفحة من الحجم الكبير، تشرفت بمراجعته قبل طبعه باللغة العربية.