"في عتمة الماء" .. المرأة وصراع المرويتين

بناء رواية باولا هوكينز ينهضُ على متابعة النساء اللائي انتهى بهن المصير في بركة الغارقات.
المادة المسرودة تسيحُ في فضائها ثيمات الموت والجريمة والتضحية والخيانة
تصوير ما تعانيه المرأةُ من الحرمان عن الحُبِ والإغتضاب والأحكام المبتورة

تميزت الكاتبة البريطانية باولا هوكينز بالتركيز في روايتها “فتاة القطار” على البعد النفسي لاسيما لدى المرأة التي تتنازعها مشاعر مُختلفة بحيثُ تبدو واقعة في دوار من أفكار مُتناقضة.
في عملها الصادر من دار التنوير 2017 معنوناً بـ "في عتمة الماء" لا تُغادرُ عالم المرأة بل أنَّ قوام القصة هو الصراع بين مرويتين حول النساء المُنتحرات إذ تتشابك المسارات والدروب المُكتنفة بشبكة من الألغاز في المادة المسرودة التي تسيحُ في فضائها ثيمات الموت والجريمة والتضحية والخيانة، إضافة إلى ما تعانيه المرأةُ من الحرمان عن الحُبِ والإغتضاب والأحكام المبتورة، وفرض رواية مُحددة عن المصير والمآلات بفضل تواتر الأخبار التي لا تكشفُ بقدر ما تُعتمُ الحقيقة وُتشيعُ الضبابية في الرؤية والموقف.
ينهضُ بناء الرواية على متابعة النساء اللائي انتهى بهن المصير في بركة الغارقات، وهنا تضعك المؤلفة أمام نظرتين الأولى تذهب إلى أن هؤلاء إنتحرْنَ في عُتمة الماء مع نشر ما يسيءُ إلى حياتهنَّ الشخصية بغرض دعم هذه القناعة أكثر، أما النظرة الثانية فهي لم تتبلور بعد لذا تُعدُ أساساً داعماً للعملُ بأكلمه. إذ يتابعُ القاريءُ ما وقع خارج زمن الرواية ويتمُ إستعادته على لسان الشخصيات المنتشرة في المساحة السردية. إذ يتواردُ ظهور الشخصيات مُتدرجا ويتمثلُ دور كل شخصية في إيجاد الترابط بين وحدات الرواية مع التنوع في الضمائر المُستخدمة لسرد المادة. 
غالباً ما يكون السرد بضمير الغائب في مقاطعِ تدور حول شخصية غير مُتضمنة فعلياً إنما الراوي يُمررُ قصتها ضمن فضاء الرواية، وبهذا تتسعُ المساحة لأصوات مُتعددة وتضمُ رؤى مُتباينة حول ما تشهدهُ بيكفورد التي تُسميها إيرين القادمة من لندن بمكان ملعون من حالات الانتحار للسيدات.
ما يُضاعف الغموض في المشهد هو أنَّ ظلال الشك تمتدُ للجميع خصوصا بعد انتحار كاتي البالغة من العمر خمسة عشر عاماً. هناك أكثر من تفسير للدافع وراء ما أقدمت عليه الطالبة المتزنة أُمها تلقي بالمسؤولية على عاتق دانييل آبوت التي بدورها تنتحر كما ترى صديقة الفتاة المراهقة أن مارك هاندرسون هو السبب وراء إنتحار كاتي وما إنفكت حلقة الإفتراضات تزدادُ بعد استجواب الأقارب وتتشعبُ مسارات البحث وتُضافُ ملفات أخرى إلى مسرح الحدث بما فيها إنتحار لورين والدة المُحَقِق شون عندما كان الأخير طفلاً. 

novel
أُسلوب البناء المتوازي في رسم المشاهد الأخيرة

التجاهل
يتصدرُ مقطع عن بركة الغارقات إفتتاحية الرواية مع الإشارة إلى شخصية عوقب عليها بالموتِ غرقاً ويظلُ السبب مجهولاً إلى أنَّ تتذكرَ جوليا حكاية ليبي التي سمعتها على لسان الأُخت المُنتحرة، إذ كانت ليبي مُتهمةً بإغواء رجل مُسنٍ ترك زوجته وطفله من أجلها، ولا يمكنُ تبيان دلالة هذه القصة المُتضمنة والغرض منها إلا بربطها مع الفقرات الأخيرة من الرواية، كما لا تُدركُ جوليا مواقف أختها وحقيقة مشاعرها قبل لقائها روبرت كانون الذي اعتدى عليها سابقاً مع أنه كان تجمعه علاقة غرامية عميقة بدانييل آبويت، إذ تفهمُ بأن دانييل لم تكنْ على علم بأن عشيقها اغتضب الأخت الصغيرة وأهانها ما خلف الشعور بالكراهية لدى جوليا إلى درجة مقاطعتها لـ دانييل ظناً منها بأنَّ الأخيرة غضت النظر عن تصرفات روبرت المُقيتة. 
وما يزيدُ من عزلة جوليا هو افتقادها إلى الجمال الذي تتمتعُ به الأخت الكبيرة، ومن ثُمَّ تبتعدُ عن بيكفورد، وتتجاهل إتصالاتها المستمرة، أكثر من ذلك لا تُصدقُ ما روتهُ دانييل آبوت في مقدمة كتابها الإستقصائي عن النساء الغارقات بأنَّها أنقذت أختها الصغيرة من الغرق. بل تتوهم عكس ذلك تماماً.
هكذا ينتظمُ السردُ وينتقلُ الضوءُ بين شخصيات الرواية، وتأتي شهادة والدةُ كاتي لويز الحانقة على دانييل آبوت مُتهمة إياها بالتورط في ما آليه إليه مصيرُ ابنته مدعمة رأيها بالأدلة لصرف الإنتباه عن المعلم مارك. لكن عثور لينا على سوار والدتها لدى الأخير يأخذ السرد إلى اتجاه آخر إذ يعترف مارك بأنَّه وجد السوار عند هيلين زوجة المحقق شون. هنا تتحول الشبهةُ نحو عائلة باتريك ويتم ربط هذا التطور بما قالته لويز لـ إيرين عن وجود علاقة بين المحقق شون ودانييل أبوت. زدْ إلى كل ذلك كلام نيكي العجوز عن قتل باتريك لزوجته وتفنيد رواية إنتحارها، ما يعنى ضرورة البحث عن البعد المَخفي عن قصص المُنتحرات.
سقوط الأقنعة
تكتبُ الكاتبة البريطانية باولا هوكينز بأسلوب مفعم بالإثارة والدهشة إذ تتسارعُ حركة السرد بتأثير توفير مُعطيات جديدة وتنفتحُ حلقاته على احتمالات وتوقعات مغايرة لما اتخذ قالب اليقينيات لدى شخصيات الرواية فبدأت القناعات تتخلخل بفعلِ وجود تطورات مُفاجئة حيثُ تنسحبُ ظلال الشك والشبهة على من كان مُكلفاً بالبحث عن ملابسات وظروف إنتحار كاتي ونييل. 
وما يلفت النظر في هذا السياق هو قدرة شون على التمثيل وملاحقته لمارك هندسون غير أن هذه الحالةَ ما تلبثُ حتى تنقلب فتشرعُ الشرطية إيرين بإستجواب باتريك الذي سرعان ما يعترفُ بدون الإلتفاف، ويخبرُ المحققة بأنَّه نزع السوار من رسغ نييل عندما جرها قبل أن يدفعها إلى النهر، ولا ينتهي الأمرُ عند هذا بل يستعيدُ تفاصيل قتله لزوجته لورين ومن ثُمَّ ترويجه لسيناريو علاقتها برجل مجهول وإنتحارها في بركة الغارقات. وهو قام بكل ذلك حسب إدعائه لحماية ابنه المحقق شون. 
في البداية لم يُعلنْ إرتكابه للجريمة كون شون صغيراً وإحتاج لمن يرعاه ولاحقاً يقتلُ نييل أبوت لأنَّه كشف علاقة ابنه بتلك المرأة الغاوية ما يعنى وجود تهديد على حياته الأسرية. ولا تتوقفُ سلسلة المُفاجآت والتحولات عند إعترافات والد المُحقق بل تُعيد المؤلفة شخصية شون إلى واجهة العمل لإسترجاع ما وقع في المنزل قبل أن توجد لورين في بركة الغارقات ناهيك عن إستحضاره لما سمعه من عشيقته نييل عن إحتمال مقتل والدته قبل أن تلقىَ بها في النهر، وما دار بينه وبين والده حول نهاية الأُم والأسئلة التي كانت تغذيها الشرطية جيني وما تبع ذلك من غضب باتريك للابن ومطالبته بعدم فتح هذا الموضوع. 

رواية
وحدات الرواية بأسماء الشخصيات

ولا تدع صاحبة "فتاة القطار" المتلقي دون تحويل مؤشر الإتهام مرة أخرى إلى بقعة مُعتمة. إذ يعترفُ شون بأنَّه قتل نييل أبوت، إذ يمضي الاثنان نحو بركة الغارقات بعد قضاء لحظات حميمية داخل الكوخ، وما أن تقف نييل على قمة الجرف حتى يدفع بها المحقق بعيدا إلى عتمة الماء.
يُذكر أنَّ هذا العمل أعمق من أن يدرَج في خانة الروايات البوليسية رغم إعتماد المؤلفة على ما تتصف به الحبكة البوليسية من البحث عن أثر الجريمة والمُلاحقات، وتخدمُ هذه التقنيات كلها البعد النفسي والوجودي فضلاً عما تهدف إليه الرواية من الغاية الأساسية وهي دحضُ ما يسود في الخطاب الذكوري بأنَّ الإنتحار غريزةُ متأصلة في شخصية المرأة. 
ما يجبُ الإشارة إليه أن الكاتبة فضلت أُسلوب البناء المتوازي في رسم المشاهد الأخيرة، وفصلت بين وحدات الرواية بأسماء الشخصيات، ما زاد من تماسك هكليتها وانتظامها.