قاتل هنا وشهيد هناك

لا تخجل حماس من رفع صورة قاسم سليماني قاتل العراقيين والسوريين.
ما رأي اسماعيل هنية في الاغتيالات اليومية التي يقوم بها ورثة قاسم سليماني في العراق؟
أمرٌ عجيب وغريب ومريب حين يحتفل "فلسطينيون" ذاقوا مرارة الظلم والاحتلال بذكرى مقتل سليماني
يُحرمون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ويُحلّون الاحتلالَ الروسي لسوريا والإيراني للعراق ولبنان واليمن

حتى الإيرانيون، أنفسُهم، مختلفون أكثر من غيرهم في تشخيص حقيقة القتيل قاسم سليماني. فمنهم من يبكيه بحرارة ويَعدُّه أحد الشهداء الأحياء الذين هُم عند ربهم يرزقون، وآخرون إيرانيون وعراقيون وسوريون ولبنانيون ويمنيون وفلسطينيون يلعنون الساعة التي حملته إليهم ذات يوم، ويباركون رحيله، ويستذكرون، كلَّ يوم وكل ساعة، مجازره التي كان يتفتّق عنها عقلُه الشغال والميال إلى إزهاق الأرواح، وإلى رؤية شلالات الدم، وسماع صراخ الضحية، والمتفرج على ميلشياته وهي تنشر الجنائز في القريب والبعيد من البلاد، وتجلل الجبال والوهاد بالسواد.

ولكن حماس الفلسطينية التي كان يُتوقع منها أن تكون أكثر حصافة وحنكة فتُخفي حزنها على مقتله احتراماً لأحزان أشقائها ضحايا حكومة سليماني واحتلالها وظلمها وعدوانها، وهي التي يُفترض أنها تجاهد في سبيل الخلاص من ظلم وعدوان واحتلال.

أما الولائيون العراقيون المرتزقون من ولائم قاسم سليماني ووارثيه فإنهم حين يحتفلون بالذكرى السنوية الأولى لمقتله، ويرفعون صوره في عقر دار البرلمان الذي يُقال إنه ممثلُ الشعب العراقي بكل طوائفه وقومياته وأديانه الموالية أو غير الموالية، فذلك أمرٌ مفهوم، باعتبار أن العراق مستوطنة إيرانية يحق لهم أن يصولوا فيها ويجولوا، دون حساب أو كتاب، مثلما يحتفل المحتلون الإسرائيليون بأعيادهم في إحدى مستوطناتهم في فلسطين.

ولكن حين يحتفل "فلسطينيون" بذكرى مقتل "شهيد القدس" ويرفعون صورته في أهم شوارع غزة، وهم الذين ذاقوا مرارة الظلم والاحتلال، فذلك أمرٌ عجيب وغريب ومريب.

ألم يسمعوا الشاعر العربي وهو يقول، "إن المصائب يجمعنَ المُصابينا"؟ إذن كيف لا يشاطرون في الغضب الملايينَ من أشقائهم العرب المحكومين بأسوأ أنواع الاحتلال وأكثرها بشاعة؟

فما الفرق بين احتلالٍ أميركي وروسي، وبين إيراني وإسرائيلي؟ أليس الاحتلال هو الاحتلال، والظلم هو الظلم، والاستيطان هو الاستيطان؟

ولكن الفلوس، كما يبدو، هي التي تعمي النفوس. فقد اعترف محمود الزهار، العضو القيادي في حركة حماس، أخيرا، بأنه زار طهران في 2006 بصحبة ثمانية آخرين من رفاقه في الجهاد الإسلامي، والتقى بقاسم سليماني. يقول: "ذكرنا له مشكلة رواتب الموظفين، والحالات الاجتماعية، والمساعدات التي يجب أن تُقدم للجمهور، في وقت فُرض علينا الحصار بعد نجاحنا في الانتخابات."

يقول: "وكانت استجابته فورية. فقد وجدنا 22 مليون دولار في اليوم التالي في المطار، وكان الاتفاق على مبلغ أكبر من ذلك، ولكن لأننا كنا 9 أشخاص، فلا نستطيع أن نحمل أكثر".

ولماذا نذهب بعيدا؟ تعالوا نسأل المجاهد الذي أمر برفع صورة القتيل الكبيرة في غزة، مؤخرا، ألم يستمع إلى "المجاهد" حسن نصرالله وهو يخبر قناته المسمّاة بالميادين، بأن "قاسم سليماني هو الذي أقنع الرئيس الروسي بوتين، بالتدخل العسكري في سوريا، عام 2015"؟

يقول إن "الرئيس الروسي كان مترددا في اتخاذ قرار التدخل، وإنه كان خائفا من إمكانية فشل تلك الخطوة".

"وفي تلك الأثناء، حدث تنسيق إيراني- روسي من أجل ترتيب زيارة سليماني لموسكو، فالتقى بوتين مدة ساعتين"، و"قام بوضع الخرائط على الطاولة أمامه، وكشف له مناطق تواجد القوات الحليفة (للرئيس) الأسد، وقوات معارضيه، ثم قدم له قراءة استراتيجية حول سوريا والمحيط الإقليمي والنتائج المتوقعة". عندها قال بوتين: "لقد اقتنعتُ". و"بناءً على تلك الجلسة بين سليماني وبوتين اتُخذ قرار التدخل العسكري الروسي".

إذن، فحماس، حين ترفع صورة سليماني في غزة، لا يعنيها أن ترى مئاتِ الآلاف من السوريين أشلاءً ممزقة متناثرة بين الأنقاض، ومئات الآلاف الأخرى لاجئين في بلادهم وفي دول الجوار، أو تائهين في القفار والبحار، ولا تعتبرها جريمةً بحق أشقائها في العروبة التي تنتمي إليها، وبحق القضية الفلسطينية ذاتها التي تدعي الجهاد لتحريرها.

كما أنها لا ترى قاسم سليماني، وهو المُحرضَ الحقيقي الأول والأخير على دخول مئات الطائرات والدبابات والصواريخ الروسية إلى سوريا شريكاً في جرائم الجيش الروسي الذي دعاه إلى احتلال سوريا وتدميرها.

عجيبٌ أمر هؤلاء الذين الإسلاميين الذين استخدموا الدين في السياسية فخربوا السياسة وشوهوا الدين. فهم جميعا، إيرانيين وفلسطينيين وعراقيين ولبنانيين ويمنيين، يُحرمون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، (إن كانوا صادقين في تحريمه)، ويُحلّون الاحتلالَ الروسي لسوريا، والاحتلال الإيراني للعراق وسوريا ولبنان واليمن، ويباركونه، ويُكرمون راعيه وحاميه، ولا يستحون.

لقد عبر اسماعيل هنية، في خطابٍ ألقاه في تشييع قاسم سليماني في طهران، في يناير/كانون الثاني الماضي، عن ألمه البالغ لاغتيال صديقه وحليفه، وقال إن "اغتيال الشهيد القائد شهيد القدس جريمة نكراء تستحق من كل العالم الرفض والإدانة والعقوبة".

إذن ما رأيه في الاغتيالات اليومية التي يقوم بها ورثة قاسم سليماني في العراق؟

وماذا يسمي هروب العشرات من عوائل المتظاهرين العراقيين السلميين المطالبين بلقمة العيش والعدالة والكرامة من وطنهم خوفا من الاحتلال الإيراني وميليشياته التي لا ترحم؟

هل فعلت إسرائيل بالفلسطينيين رُبع ما فعلته إيران بالعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين والفلسطينيين؟، أو ربع ما فعله بوتين بسوريا وبالسوريين؟

ولم يطل بنا الانتظار حتى هب المواطن الفلسطيني العربي الأصيل الرافض للاحتلال والاستيطان والاستعباد فمحى "فعلة" حماس التي لا توصف بالوقاحة ونكران الجميل، فقط، بل بالغباء الشديد، لأنها تزرع العداوة بين الشعب الفلسطيني وبين أشقائه العرب، وهم بالملايين. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.