كم ستعمر النهضة إذا ما استقال الغنوشي واعتزل السياسة؟
تونس - صالح كركر واحميدة النيفر وعبدالفتاح مورو والحبيب المكني والمنصف بن سالم وراشد الغنوشي وغيرهم... هم من واضعي اللبنة الأولى للجماعة الإسلامية في تونس والتي صارت تعرف بعد العديد من التطورات التاريخية باسم حركة النهضة. لكن من بين هذه الأسماء اسم راشد الغنوشي فقط هو الذي يتصدر الذاكرة عند الحديث عن حركة النهضة.
تماهى اسم راشد الغنوشي مع اسم الحركة لدرجة أن البعض يتساءل اليوم على وقع غليان الشارع التونسي ضد الحركة ورئيسها: ماذا لو غاب الغنوشي؟، هل ستبقى هناك "نهضة"؟
امتلك راشد الغنوشي دون شك كل مقومات قيادة التنظيم من دهاء سياسي وعلاقات خارجية متينة ربطته بأهم القيادات الإخوانية وبالأنظمة الداعمة لها. وعلى مستوى التنظير كان الغنوشي الأكثر تأثيرا بكتاباته والمرشد الأعلى للأجيال التي أعقبت جيل التأسيس.
وبعد 2011، لم تعرف القاعدة الشعبية المستجدة التي اكتسبتها الحركة الوافدة على الشارع التونسي من المنافي ومن السجون، غير راشد الغنوشي ممثلا وناطقا رئيسيا وقائدا ومسؤولا، صاحب النفوذ اللامحدود. ويترأس الغنوشي الحركة منذ سنة 1991، وسبق أن ترأسها أيضا لعهدتين منفصلتين (197-1980 و1981).
وهذا ما يفسر حالة الغضب التي انصبت على شخص راشد الغنوسي أكثر من غيره هذه الأيام في تونس بعد أن ثار الشارع التونسي ضد المنظومة الحاكمة التي ترأستها النهضة منذ 2011، وحملها مسؤولية الأزمات في البلاد.
انهيار الرمز
ما يحدث مع النهضة في تونس اليوم، حدث مع الإخوان في مصر، وإن بتفاوت واختلافات ترتبط بسياسات الدولة وتاريخ الإخوان في مصر مقارنة بتونس وخصوصية التجربة الإسلامية بين البلدين. لكن مصر وتونس تحملان رمزية للإخوان، الأولى هي البلد الأم، والثانية الدولة "المتمردة"، والتمكين في كلا البلدين يعني الانتصار المنشود.
وهذا ما لم يتحقق. تطلب الأمر حكم سنة واحدة ليسقط هيكل الإخوان في مصر. لكن في تونس الثمن كان أكبر. عشر سنوات قضاها التونسيون تحت تجارب الائتلافات الحكومية الفاشلة التي شاركت فيها النهضة. تغاضوا عن تاريخها الدموي، وعن افتقار قيادييها للخبرة السياسية لقيادة البلاد في فترة من أصعب الفترات في تاريخها. لكن بعد ذلك فاضت الكأس. فشلت النهضة في تطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية التركي في تونس. وفشلت في تحقيق الخطوات الأولى لسياسة التمكين الإخواني. وفشلت في أن تقدم نفسها كحزب مدنبي بتوجهات اقتصادية ليبرالية. وفشلت في فهم طبيعة المجتمع التونسي.
في رسالة يعود تاريخها إلى أكتوبر 2011، توجه حسن الترابي إلى راشد الغنوشي ناصحا "لا تبدؤوا في وضع برنامج الأسلمة والتّمكين قيد التّطبيق، قبل أن تُفكّكوا مُؤسّسات الـدّولة القديمة، فهي خطر كبير عليكم، نحن جرّبنا هذا قبلكم وعـانينا منه... يجب عليكم تفتيت مُؤسّسات وإدارة دولة بورقيبة العلمانيّة لأنّها ستقاومكم ... فقط بعد إزالتها تستطيعوا أن تبنوا الدّولة الإسلامية المنشودة ...".
وهذا ما لم يتحقق لا فقط لأن المبادئ التي زرعها بورقيبة راسخة في ثقافة المجتمع التونسي بل أساسا لأن التونسي لا يثور إلا من أجل "خبزته". أغلب الثورات الشعبية في تاريخ تونس قديما وحديثا ارتبطت بالفقر ورفع الضرائب وارتفاع الأسعار.
محاربة العلمانية وأسلمة المجتمع وتغيير مجلة الأحوال الشخصية والعلميات الإرهابية أدت إلى خروج مظاهرات احتجاجية ضد النهضة لكن لم تؤدي إلى تحشيد الشارع مثلما حصل مع تصاعد الأزمة السياسية والاجتماعية والصحية التي قادت الشارع يوم 25 يوليو إلى الخروج ضد منظومة 2011.
عن ذلك يقول الكاتب الصحفي التونسي نورالدين بالطيب "استنزفت حركة النهضة بعد عشر سنوات من الحكم رصيد المظلومية الذي استندت إليه في انتخابات 2011 إلى جانب استفادتها من شيطنة النظام السابق. لم تحقق أي مكسب بل قادت البلاد إلى الهاوية وسيكون الحساب مع الشعب التونسي عسيرا في الانتخابات القادمة".
في انتخابات سنة 2014، منحت حركة النهضة فرصة لتدارك الأخطاء عندما قبل الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي بالتوافق مع حركة النهضة. لكن رغبة الحركة في الاستئثار بالحكم وغيرة قياديها من الالتفاف الشعبي حول السبسي الذي وجدوا فيه صورة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والقائد العارف بطبيعة التونسيين وثقافتهم، جعلها تحرق هذه الورقة وتخسر من رصيدها

.ويؤكد السياسي التونسي المخضرم أحمد نجيب الشابي لميدل ايست أونلاين أن النهضة استنزفت قوتها في العشر السنوات الماضية وفقدت التأييد الشعبي ومركزها في الحكم.
ويضيف الشابي، الذي دافع عن الإسلاميين بصفته محاميا وحقوقيا ضمن جبهة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في عهد بن علي، "النهضة خسرت مصدري قوتها: وضعها في الحكم الذي كان يضع تحت يدها أجهزة الدولة والدعم الاجتماعي الذي بدأ يتقلص".
وفي ذات السياق يذهب المحلل السياسي التونسي منذر ثابت في تصريحه لميدل ايست أونلاين قائلا "الغنوشي لم يدرك سياسيا أنه كان لا بد الانسحاب منذ 2014 إلى المعارضة وعدم تحمل المسؤولية وعدم مواصلة التجربة الفاشلة".
وفي الانتخابات التشريعية لسنة 2019، حافظت النهضة على تقدمها لكن فوزها لم يعكس انتصارا بل كشف تراجعا في عدد الأصوات وكان ذلك بمثابة بداية الانهيار خاصة عندما اضطرها الأمر إلى التحالف مع حزب قلب تونس، الذي سبق وأن اتهمته بالفساد، وشدد الغنوشي على استحالة التحالف مع رئيسه نبيل القروي.
أفرزت هذه الانتخابات مشهدا برلمانيا هجينا، حكومة ومعارضة. وأذنت ببداية الانهيار. ويبدو أن رئاسة الغنوشي لمجلس نواب الشعب في هذه المرحلة كان لها تأثير مضاعف على تراجع صورته وانهيار "القداسة" التي أحيطت به.
يؤكد ذلك موقف شباب الحركة قبل موقف المعارضين. تراجع وزن الغنوشي داخل الحركة وأحدثت مواقفه صدعا أسفر عن انسحاب بعض وجوهها المعروفة وتراجع عدد داعمي الغنوشي وممثليه في المكتب التنفيذي، كما تراجع عدد المؤدين للحركة من القاعدة الشعبية التي كوّنتها بعد 2011.
تجاوز الخطوط الحمر
تأتي القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، استجابة لمطالب الشارع، بحل الحكومة وتجميد عمل البرلمان، وفتح ملفات قضايا الفساد والإرهاب وهي قضايا يمكن أن تدين حركة النهضة، لتجعل النهضاويين يتجاوزون الخطوط الحمر بأن يطالب بعضهم باستقالة الغنوشي.
ويلفت منذر ثابت إلى أن حركة النهضة ستشهد مراجعات وهي تعيش اليوم أعنف أزمة منذ تأسيسها". ويوضح ذلك بقوله "في مواجهة نظام بورقيبة وبن علي كانت حجة النهضة هي أن النظام كان مستبدا ولا ديمقراطيا لكن هذه المرة النهضة تستهدف من طرف معارضين أغلبهم من عامة الشعب في إطار الحالة الديمقراطية وتحت شعار حماية الديمقراطية وحماية الدولة" من سياسات النهضة.
ويضيف ثابت "بقطع النظر عن الحيثيات، النهضة تواجه أزمة داخلية ليست جديدة هي أزمة خلافة راشد الغنوشي وأزمة التحول من تيار أصولي يراهن على إرساء خلافة إسلامية أو الجمهورية الإسلامية إلى تيار مدني"، لافتا إلى أن "هذه الأزمة ستقود إلى انشقاق داخل النهضة".
وفعلا، طالب بيان صادر عن 130 شابا من شباب حركة النهضة، بينهم نواب بالبرلمان، بحل المكتب التنفيذي للحركة واتهامه بالفشل والتسبب بتدهور الأوضاع في البلاد. وكذلك طالب البيان تحمل راشد الغنوشي مسؤوليته أمام الشعب والالتزام بالمسار التصحيحي والاعتراف بالأخطاء.
ودعا البيان مجلس الشورى إلى تحمل مسؤوليته وحل المكتب التنفيذي للحزب وتكليف خلية أزمة قادرة على التعاطي مع الوضعية الحادة التي تعيشها تونس. لكن عوض الاستماع لهذه المطالب، قرر راشد الغنوشي تأجيل انعقاد اجتماع مجلس الشورى الذي يمثل أعلى سلطة في الحركة لأجل غير مسمى.
ونقلت وكالة رويترز عن مصادر في حركة النهضة أن “الغنوشي أرجأ الاجتماع الذي كان مقررا السبت (31 يوليو( ساعة فقط من موعد الانعقاد”. وقالت المصادر إن “العشرات من أعضاء الحزب الشبان وبعض زعمائه ومن بينهم برلمانيون طالبوا الغنوشي بالاستقالة".
وليس فقط الشباب من يطالب بهذه المراجعات بل القيادات أيضا. ويقول نورالدين بالطيب لميدل ايست أولاين "تتصاعد وتيرة الخلافات داخل حركة النهضة وتتعالى الأصوات المطالبة بإبعاد راشد الغنوشي عن قيادة الحركة والمقربين منه. ويعتبر جزء كبير من قواعد الحركة ممن عاشوا في السجون ولم يغادروا تونس أن الغنوشي ألقى بهم في المحرقة عندما هرب من تونس وزج بهم في مواجهة مع سلطة بن علي".
النهضة بلا الغنوشي
في تقدير السياسي التونسي خالد شوكات حركة النهضة مقبلة على نوعين من المراجعة عاجلا أم آجلا: مراجعة على مستوى القيادة ومراجعة على مستوى التوجهات السياسية.
ويقول شوكات لميدل ايست أونلاين "الغنوشي نفسه أعرب على استعداده لتقديم تنازلات إذا ما كان الضمان العودة إلى المسار الانتقالي الديمقراطي وبالتالي هناك استعداد لدى النهضة نفسها على المراجعة وفي التغيير".
هناك استعداد لدى النهضة نفسها على المراجعة وفي التغيير
لكن من وجهة نظر منذر ثابت "غياب الغنوشي في هذا الظرف سيقود إلى الحركة إلى حالة من التشظي والتشذرم الذي ليس بالضرورة الأمر الجيد للمشهد التونسي". ويلفت ثابت إلى أن "الجيل الجديد من النهضة قد يكون الأكثر تطرفا ولن يقبل بتقديم تنازلات" .
أما نجيب الشابي، فيرى أن "النهضة ستعمر في حال استقال الغنوشي أو اعتزل لأنها حركة إيديولوجية وبالتالي لديها مقومات البقاء. لكن استقالة الغنوشي تفتح الباب لاتجاه التنافس والصراعات على خلافته وهذه الصراعات ستضعفها".
كل المؤشرات تقول إن حركة النهضة تشهد "انقلابا" داخليا وخارجيا لن تخرج منه كما كانت خلال السنوات العشر الماضية. ووفق نورالدين بالطيب "اليوم يمكن اعتبار الغنوشي في حكم المنتهي سياسيا".
لكن من يمكن أن يكون البديل؟
عن هذا السؤال يجب بالطيب "يظهر على السطح حاليا داخل الحركة على الأقل ثلاثة أسماء أساسية وهم علي العريض الذي يتمتع بشعبية داخل قواعد الحركة خاصة في الجنوب الشرقي وعبداللطيف المكي الذي يملك ثقلا داخل أوساط الشباب خاصة ونورالدين البحيري الذي يملك ثقلا في أوساط المحامين والمساجين الذين يطالبون بالتعويضات".
أما الباحثة المتخصصة في الحضارة الإسلامية زينب التوجاني فترى أن "النهضة بعد الغنوشي ستفقد سندها العالمي والشريان الذي يربطها بالتنظيم الذي تغذيه قوى دولية، وسيفقد الإخوان في تونس علاقتهم المباشرة بالإخوان في بقية العالم، ولكنّ يجب أن ننتبه إلى أن عبدالفتاح مورو مثلا أقام علاقات وطيدة بالمنابع التركية للدعم وكذلك أصهار الغنوشي وبعض القادة من الشباب الذين أحاطهم الغنوشي بالدعم وأعدهم للازمة المرتقبة".
وتخلص التوجاني إلى أن "تنظيم الإخوان فقد الكثير في تونس من قوته لرفض التونسيين للإيديولوجيا الصحوية ولفساد حكم النهضة وتحالفها مع الفاسدين وعجزها وفشلها في إدارة الأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية. لكن لا يزال حلم الإخوان كامنا في الثقافة وفي القواعد. إن الذي يغذي فكرة الدولة الإسلامية كامن في عجز الدول عن تحديث بناها الفكرية والاجتماعية ولذلك فإن عودة الخطاب الديني غير مستعبد مادام في الناس فقر وقلق حضاري وخرافات ولهذا فإن الحل الوحيد هو تربية وتنمية العقل العلمي والعمل وازدهار الحياة الاقتصادية وتحقيق الرفاه الاجتماعي".