قصر الزعفران .. تحفة معمارية في قاهرة القصور

القاهرة تميزت بقصور محمد علي باشا وأبنائه وأحفاده بالإضافة للنخب السياسية من الباشوات.
أقصر الزعفران لأنت القصر ** خليق أن يتهدى على النجوم
القصر شهد العديد من الأحداث التاريخية الساخنة

القاهرة ـ من شربات عبدالحي

خطوات ثابتة، ونظرات ثاقبة، وشعور غريب، وروائح ذكية، بمجرد أن تطأ أول قدم، في أحياء منطقة العباسية، يسري في الجسد هذا الشعور، حيث ينتابنا إحساس العودة إلى أجواء القرن التاسع عشر، فكل نظرة على مبنى أو قصر قديم، يبدأ الذهن في تصور الأحداث التي وقعت داخل تلك البيوت والقصور الموجودة في الأحياء القديمة، والتي عادة نعجب لحالها وما آلت إليه ونتخيل أيام عزها ومجدها تارة، وما كانت عليه تلك الأمة من رقي وحس فني رفيع تارة أخرى.
"قاهرة القصور" .. هذا أبسط ما قيل عن القاهرة، حيث تميزت بقصور محمد علي باشا وأبنائه وأحفاده بالإضافة للنخب السياسية من الباشوات، وشيدت القاهرة في بدايتها، حصونا ملكيا للخليفة وأتباعه سنة 969 معزولة داخل أسوارها عن باقي طبقات المجتمع، وكان يتوسطها قصور خلفاء الفاطميين وسرعان ما تكاملت القاهرة بقصورها مع باقي المدينة وطبقاتها الاجتماعية، وامتدت في اتجاه الشمال إلى شبرا والعباسية والسكاكيني والظاهر ومصر الجديدة، وفي اتجاه الجنوب إلى المعادي وحلوان، وفي اتجاه الغرب إلى قصر الدوبارة وقصر النيل وجاردن سيتي وعبور النيل إلى الزمالك والجيزة، وانتشر سكنى الأرستقراطية الجديدة من المصريين والأجانب في تلك الضواحي والأحياء الجديدة.
وبكلمات رائعة وحس رفيع، أنشد شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدة تصف قصر الزعفران الذي يثير شغف وفضول كل من يراه :
أقصر الزعفران لأنت القصر ** خليق أن يتهدى على النجوم
كلا يهديك للأجيال فخر ** وزهور للحديث وللقديم
ترى بالأمس فيك علا ** ومجد وأنت اليوم مثوى للعلوم

تم بناء القصر في عصر الخديوي إسماعيل، وتحديدًا عام 1870، على أنقاض "قصر الحصوة" والذي بلغ ثمنه آنذاك حوالي 250,000 قرش أي ما يساوي 2500 جنيه، وبناه محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة، على غرار قصر فرساي في فرنسا، الذي قضى الخديوي فيه فترة تعليمه، وشهد القصر العديد من الأحداث التاريخية الساخنة التي مرت على مصر خلال تلك الفترة، مثل دخول الإنجليز إلى البلاد، وتوقيع معاهدة عام 1936 الشهيرة، وما زالت المنضدة التي تم توقيع تلك المعاهدة عليها موجودة في مكانها بصالون القاعة الرئيسية، وعمرها الآن حوالي 120 سنة، وحولها طاقم من الكراسي المذهبة.
ووصف د. محمد كامل أستاذ التاريخ الحديث، القصر قائلًا: يطل قصر الزعفران على حي العباسية، بطرازه الأوروبي مثل تحفة معمارية فريدة في نوعها لا ينافسها في جمال المنظر ودقة البناء سوى قصر فرساي الشهير في فرنسا، ويوجد به أربع واجهات معشقة، بنوافذ وشرفات بعقود نصف دائرية، وزخارف جصية بهيئة فروع نباتية وأكاليل زهور غاية في البساطة والرقة، يتخللها تصاميم فنون النحاس والذهب والزجاج الملون، فضلا عن أسقفه الملونة بألوان السماء، ويجمع القصر من الداخل بين طرازين هما الطراز القوطي وطراز الباروك، التي يعتبرونه في ذلك الوقت من أهم الطرز المعمارية التي كانت تستعمل في كثير من قصور القرن التاسع عشر.
وتابع: يتكون من ثلاثة طوابق رئيسية، حيث يضم الطابق الأول مجموعة من الأعمدة ذات الطراز اليوناني الروماني من الرخام الأخضر والأصفر بتيجان مذهبة، ويضم الطابق الثاني للقصر ثماني غرف للنوم، وتظهر القاعة الرئيسية من جهة اليسار عند الدخول من الباب المصنوع من الزجاج المعشق، وإلى جوارها قاعتا استقبال أخريان، فيما تقع حجرة المائدة إلى اليمين، وهي تسع لنحو 49 شخصًا، إلى جانب طابق تحت الأرض، وصل إليه من خلال سلم البهو الكبير المصنوع من النحاس والمغطى بطبقة مذهبة، وهو سلم ذو طرفين يرتفع بمستوى طابقي القصر، والذي يكاد يكون السلم الوحيد في مصر الذي يضم هذه الكمية من النحاس.
إهداء لوالدته

تخريب للقصر لمدة خمس سنوات
للأجيال فخر

وأبرز د. محمد المتولى أستاذ التاريخ الحديث المعاصر بجامعة القاهرة، هدية الخديوي لوالدته، قائلًا: في العام 1872 أهدى القصر لوالدته المريضة خوشيار هانم لتقيم فيه خلال فترة الاستشفاء من مرض عضال أصابها، وذلك بعد نقش الأحرف الأولى من اسمه، وشكل تاجه الخاص على بوابة القصر الحديدية ومداخل القاعات والغرف، والذي تميز وقتها بوجود حديقة حول القصر، بلغت مساحتها 100 فدان، زرعت به مساحات شاسعة من نبات الزعفران ذي الرائحة الزكية، ولكن خلال الاحتلال الإنجليزي لمصر اعتبروه كجزء من البلد التي عاثوا فيها فسادًا، إذ طلب الخديوي توفيق من جدته خوشيار هانم إخلاء القصر، لإقامة الضباط الإنجليز، فطردوا من يعمل به من خدم خوشيار هانم، وطالت إقامتهم به تخريب للقصر لمدة خمس سنوات.
ويضيف د. المتولي: وفي 29 ديسمبر/كانون الأول عام 1985 تم تسجيل قصر الزعفران ضمن الآثار الإسلامية، باعتباره أثراً تاريخياً شهد وقائع تاريخ مصر الحديث والمعاصر. إنها رحلة قصيرة سريعة، شعرنا فيها بجميع الأحداث التي وقعت، ونقشت على جدران القصر، الذي تجذر اليوم في تاريخ المدينة، وأمسى موروثاً مجتمعياً، وأصبحت المعالم تشكل بعداً محورياً في تشكيل تاريخ وثقافة المجتمع، حيث يتبع القصر الآن جامعة عين شمس، وقد انتقلت إليه إدارة الجامعة منذ سنوات بعيدة، لكنه لا يزال يحتفظ بطرازه المعماري الذي يتميز بالبساطة في العناصر المعمارية والزخرفية، كما تحتوي الجامعة على ضريح الشيخ محمد الطباخ، الواقع داخل حرم مستشفيات جامعة عين شمس، كما شهد القصر تصوير العديد من الأعمال الفنية، خاصة التي تدور أحداثها في رحاب الحياة الجامعية، كان منها مسلسل "الجماعة" الذي قدم قبل ثلاث سنوات. (وكالة الصحافة العربية)