قصيدة النثر بعيون الروّاد

صلاح عبدالصبور يرى أن قصيدة النثر نوع من الثرثرة غير المنضبطة، وبلند الحيدري يؤكد أنها ليست ظاهرة أصيلة في الفن.

يرى الشاعر صلاح عبدالصبور أن قصيدة النثر افتقدت عنصرًا مهما هو عنصر الإيقاع المنضبط. وفي تصوره أن العناصر الفنية إذا اختفى منها عنصر في العمل الفني يجب أن يحل محله عنصر آخر، وبدرجة مركزة ومكثفة، بمعنى أن يجب أن يحل محله بديل، ولقد افتقدنا في شعرنا العربي الحديث عنصري القافية والوزن؛ القافية الملتزمة، والوزن المتكامل. فلو لم تحل محلهما الصورة والقافية المتداخلة والموسيقى الداخلية، والجدة التي أسميناها بالحداثة، لأصبحنا قد فقدنا عنصرًا مهما، ولم تحل محله بديلا.

ويؤكد صلاح عبدالصبور – في الندوة التي نظمتها مجلة "المجلة" بالقاهرة في عددها 144 – ديسمبر 1968 وأدارها الكاتب الكبير يحيى حقي – أن معظم القصائد النثرية التي قرأها، افتقدت هذا العنصر، ولم تحل محله شيئًا جديدًا، فأصبحت نوعًا من الثرثرة غير المنضبطة، اللهم إلا بضعة نماذج قليلة في العربية، وقليلة جدا في الفرنسية، فيما عدا بعض قصائد بودلير ورامبو، لما لهما من مقدرة فذة على تركيب الصورة، فبودلير مثلا لديه مقدرة فذة لا نظير لها على تركيب الصورة، وهو شاعر الشعراء في المزج بين العوالم المختلفة واستخراج المفاجأة السارة التي تسعد القارئ، لأنها تكشف له عالمًا جديدًا، فالعلاقات بين الأشياء لا تتكون عنده على حساب التداعي العادي، وإنما على حساب تداع مفاجئ باهر ورائع.

ويرى عبدالصبور أن مقدرة بودلير هذه هي التي جعلته يكتب قصيدة نثرية رائعة.

أما الشعراء مما لا يتمتعون بموهبة التكوين الخارق للصورة، والقدرة على خلق الموسيقى الصورية – فالصور نفسها تكون نوعاً من الموسيقى بتلاحقها – فتكون الموسيقى النثرية نوعًا من العبث.

شارك في هذا الندوة التي نظمتها مجلة "المجلة" بالقاهرة، كل من الشعراء: خليل حاوي وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري.

وقال خليل حاوي عن القصيدة النثرية: حاولت كغيري من زملائي أن التفت إلى كل الأنماط الشعرية، وأن أفيد منها جميعا، وقد قرأتُ كتابًا كبيرًا جدا باللغة الفرنسية يقع في حوالي ألف صفحة بالحرف الصغير عنوانه Poèmes en Prose (قصائد في النثر) واستخرجت منه، ومن كتب أخرى غيره بعض الحقائق الواقعية البسيطة التي يمكننا أن نخرج منها بنتيجة مهمة، وهي أن الشعراء الكبار في الشعر الغربي الحديث باستثناء جون بيرس لم يخرجوا عن الإيقاع المنضبط بالوزن، من هؤلاء ييتس وفاليري ورلكه وغيرهم كثير.

ويؤكد حاوي أن الانضباط هو عامل تكثيف في القصيدة، وهو الذي يمنعها من أن تنساح وتتشتت.

ويشير بلند الحيدري إلى أن بعض اللغات تحظى بنوع من الميزات الخاصة؛ فاللغة الإنجليزية مثلا تستعمل أحيانا اللاحقة ing  التي تفيد الاستمرار، وتعطي نوعًا من النغم الخاص، ومع هذا حافظ الشاعر على الإنجليزي على الإيقاع في قصيدته، رغم أنها كثيفة النغم الداخلي، فكل فعل استمراري هو نغم داخلي في القصيدة بعكس الشعر العربي، لذلك كان على الشعر العربي أن يتمسك بالموسيقى أكثر من الشعر الغربي.

وهنا يتدخل خليل حاوي بقوله: المهم أن النتيجة واحدة، فإذا كان المهم هو التكثيف، فهنا التكثيف والغنى، وإذا كان الشعر مثلا هو الفن الكتابي الأسمى – أي أنه ذروة الوحي – فهو لا يحتمل النوافل والهوامش والتشتت والتميع والانسياح، فلماذا إذن لا نفيد من الإيقاع المنضبط بالوزن، ولا أقول الوزن فقط، لأن الوزن هو الشكل الخارجي الذي يكيفه مضمونه الوجداني؟

وفي اعتقاد حاوي أن القصيدة النثرية إن نجحت لدى بعض الشعراء الأوروبيين، فلأنه كانت لديهم القدرة الفائقة على خلق الصورة التي تعبر عن أعمالهم، بمعنى أن قصائدهم قامت على ركن من اثنين وهو التفوق في الصورة، فلماذا لا نفيد نحن من الركنين معًا: الإيقاع المنضبط والصورة؟

وينبّه بلند الحيدري أن ثمة اعتراضًا واحدًا، وهو أن الشعر العربي خلال محاولته خلق لغة حديثة له يعاني من مشكلة التعبير. ويقول: لقد قمت بسؤال عدد كبير من الأصدقاء عن مدى استطاعة الشاعر العربي التعبير عما يجوس خلاله، فلاحظت أن أقلية من الشعراء كانوا يعبرون عن حوالي 15 % فقط مما يجول في خاطرهم من أفكار، بينما تصل نسبة التعبير في الشعر الأوروبي إلى 80 بالمئة.

ويرى الحيدري أن السر في هذا القصور في التعبير راجع بلا شك إلى الكلمات التي فرضها علينا قاموس اللغة المعاشة، ومن هنا مال شعراء الغرب إلى القصيدة النثرية لأنها أوسع مجالا في التعبير عن هذه الـ 80  بالمئة.

وهنا يحذر خليل حاوي من العودة إلى القاموس الشعري المتجمد الذي كان يستمده من جاءوا قبلنا، بل يجب أن يستمد من تراث اللغة بكليته؛ فصيحة وعامية، فيكون ذلك مجالا لإدخال شيء من الحيوية باستخدام الكلمات الحية المعاشة التي ربما يكون لها تأثير على الإيقاع، الإيقاع الحي المرتبط بالواقع، مع الاعتراف بأن اللغة مهما تطورت على ألسنة الشعراء تظل عاجزةً عن التعبير عن الأغراض العملية، ثم حاول الشاعر أن يجعلها أداة فنية. لهذا كان الرمز معبرًا عن الله كما عبر عنه في القرآن والإنجيل بصورة حسية، صورة الوجه أو اليد مثلا، لأننا لا يمكن أن نخرج في اللغة الشعرية عن هذا النوع من التعبير بالصورة المجازية التي تعبر عمّا وراءها من أشياء مغيبة، بينما نستطيع أن نقول إن الله حق وخير وعدل، وهذا ما لا يصلح في الشعر.

ويرد صلاح عبدالصبور على بلند الحيدري فيقول: إن القصيدة النثرية وجدت قبل هذه الموجة، ولها مستويات كثيرة. فلقد وجدت مثلا عند جبران، وشاهدنا بعض النماذج منها في مصر عند حسين عفيف، كما شاهدنا نماذج أخرى منها كانت تنشر في مجلة "الأديب" لكن هذا الاتجاه لم يتح له قط أن يثبت أصالته كشكل تعبيري لوجود العقبات التي أشرنا إليها، ولوجود عقبة أخرى كذلك أحب أن أؤكد وجودها، وهي أن اللغة العربية لم تستطع بعد أن تخلق موسيقى السياق، وما زلنا حتى الآن لا نستطيع خلق موسيقى السياق إلا بطرق غريبة، فلو حاولت مثلا أن أخلق موسيقى السياق لجأت إلى تقطيع البيت بشكل أطلق القدماء عليه اسم القافية الداخلية، أو باستعمال الجناس الخفي، أو نوع من الأشكال الموسيقية.

وهنا يضيف بلند الحيدري: أو بالتكرار.

ويضيف عبدالصبور: لكني لا أستطيع أن أوجد موسيقى السياق الخفية التي لا نستطيع ردها إلى سبب ظاهر.

ويختم صلاح عبدالصبور مداخلته بقوله: أما عن مستقبل قصيدة النثر، فمن الصعب التكهن به الآن.

أما بلند الحيدري فيعتقد لأن القصيدة النثرية ولدت عن طريق الشعر المترجم، أي أن الترجمة فرضت القصيدة النثرية، وأقبل الجمهور على هذه المحاولات وجدَّ في فهمها بنوع من الحماس، لذا فأنا إلى اليوم لا أستوعب القصيدة النثرية إلا كعمل واقعي مترجم، لكنني لا أبررها كمحاولة علمية، وأعتبر أنها ليست ظاهرة أصيلة في الفن.