قطوف من رحيق المبدعين

أسامة الألفي يقدم في كتابه "مبدعون في لوحات أدبية" رؤى وتراجم حول مجموعة من أعلام الفكر والثقافة والأدب في الوطن العربي خلال القرن العشرين.
الكتاب يقدم منهجيته من خلال تحريره لمفهوم "المجد الحقيقي"
من ميزات الكتاب الثقافي المهم هو جدته وطرافته

البحث الإبداعي:
قدم الكاتب أسامة الألفي في كتابه "مبدعون في لوحات أدبية" رؤى وتراجم حول مجموعة من أعلام الفكر والثقافة والأدب في الوطن العربي خلال القرن العشرين. ويقدم الكتاب منهجيته من خلال تحريره لمفهوم "المجد الحقيقي" قائلًا ص 269: "المجد لحقيقي هو الذي لا يسعى صاحبه إليه، ولا يبحث عنه، وإنما يفيض عطاء ويعمل بلا كلل دون انتظار جزاءً ولا شكورًا، فالرجال العظماء يسطرون مجد تاريخهم بما قدموه وقيمة المرء لا تكمن فيما يبلغه، ولكن فيما يروم بلوغه"، فالمعيار الحاكم لاختيار شخصيات الكتاب ينطلق من قيمتها الفكرية، وعمق تأثيرها الثقافي في المجتمع المحيط بها. 
ومن ميزات الكتاب الثقافي المهم هو جدته وطرافته، حيث احتوى تدفقًا معرفيًا، ونظرات في المؤثرات البيئية المحيطة بالشخصية المختارة، وطرح نقدي في التفسير والربط بين الشخصية ومنجزها الفكري والإبداعي، وبينها وبين غيرها من الشخصيات والأفكار والأجواء المعاصرة.
ويكفي أن نعرف بعض الشخصيات المقدمة في الكتاب المقدم مثل الرافعي ويوسف السباعي وفؤاد حداد وعبدالحميد الديب وعبدالرحمن الشرقاوي ود. غازي القصيبى، وغيرهم.
وساهمت مزايا الكتاب مجتمعة في تحقيق متعة القارئ، ولا أجد مثل وصف د. عبدالحميد إبراهيم، في مقدمته التي أجرى فيها حوارًا راقيًا حول بعض أفكار ومزايا الكتاب، عندمت تحدث حول "البحث الإبداعي" بقوله ص 10 (بتصرف كبير): "لا يقدم – المؤلف أسامة الألفي - المعلومات بطريقة أكاديمية عقلية جافة بل بحثا إبداعيا ينتقل فيه القارئ من الذكريات إلى الاستشهادات إلى الأسلوب الرائق فلا يشعر القارئ بالكلل والملالة". 
ونقطف من الكتاب المهم بعض القطوف الدالة، وتفاعل ذائقتي معها كقارئ وجد وجبة ثقافية فكرية مغذية ومشبعة للفكر.
الفطرة والسلوك المكتسب – صراع طويل: 
حضرت مرة مناقشة بين مجموعة الأصدقاء حول طبيعة الشخص أو ما جبل عليه، وهل يمكن له أن يغير من طباعه من خلال السلوك المكتسب؟ وقد انحاز بعض الحضور لرأي أن الطبيعة تغلب دائما السلوك المكتسب، وأن الإنسان لا يتغير حقيقة بل تظل طباعه الأصيلة كامنة كمون النار في الجمرات فما أن تهب ظروف مواتية لها حتى تشتعل ثانية.
ورفضت ضمن الفريق الآخر هذا المنطق إذ انه ينقض ثوابت فهمتها من شرعنا الحنيف تدور حول المسئولية الفردية، وأن الإنسان لا بد له أن يوزن عمله له وعليه، وبالتالي فأدوات التغيير متاحه له، والسلوك المكتسب يجب أن يفوز في النهاية، ولا يكون هذا إلا للسائرين في طريق التغيير والمصرين على السير، وليس لمن يترك نفسه يهوى حتى يكون قلبه فحمة سوداء لا موضع فيها لبقعة بيضاء، فلا يجدي فيه التغيير أو السلوك المكتسب، ولعلنا بذلك عند هذا الموضع من التحليل التقينا مع الفريق الآخر، إذ أن عصرنا غالبًا لا يتيح إلا سبل الانهيار وذرائع الفساد، وهو نفس الموضع في ميدان الأدب، فقدم لنا الكتاب العقاد ص 44 (بتصرف): "وهو يكتب مطولته الشعرية (ترجمة شيطان)، يتحدث فيها عن توبة الشيطان، لكنه لم يتب قط بل كانت تلك طبيعته المراوغة، فهو يرى أن الخير أهون من أن يستحق منه العناية بإزالته، أو رصد المكائد له، لكنه ما يلبث أن يعود لطبيعته، لقد أراد العقاد أن يقول إنه من المحال أن يتغلب المكتسب على الفطرة وهي رؤية صورها أيضا في روايته سارة".
الرافعي والنثر الفني: 
ويشير المؤلف تحت عنوان "الرافعي .. أستاذ اللغة الشاعرة"، إلى جانب مهم من عطاء الأديب الرافعى، ويرى منجزه في هذه الناحية إيجابيًا وراقيًا، بل وربط بينه وبين الشكل المعاصر "قصيدة النثر" الذي دارت حوله – ولا تزال - وجهات نظر متباينه، يقول ص 51 (بتصرف): "كتب الرافعي لونا مميزا من النثر الفني، إذ كان بصوره وتعبيراته وأخيلته يسطر لونا من النثر الشعري هو أقرب إلي ما نسميه اليوم بـ (قصيدة النثر)، ويبدو لي أن من كتبوا هذه القصيدة تأثروا يأسلوب الرافعي بشكل أو بآخر فهو يعتمد في أسلوبه على التصوير من خلال صور بلاغية منحوتة ثرية بالمعاني عامرة بالاحاسيس مع وجود حوار عميق".
 السيرة الذاتية بين الفن والتاريخ:
ثم يقدم المؤلف فكرة "السيرة الذاتية" وإنتمائها في الأساس إلى الفن، وينتقي مقولة مهمة لعملاق الأدب والفلسفة والتاريخ علي أدهم، يقول ص 57 (بتصرف): "يصفها الناقد علي أدهم بانها ملتقى الحق الفني والحق التاريخي، لكنها فن في الإساس قبل أن تكون علما رغم انبثاقها من رحم التاريخ، حيث إن كاتبها له الحق في انتزاع أو تقديم ما يشاء من تفاصيل حياته، فليست السيرة صورة طبق الأصل من الحياة". والجمال الأدبي استشعرته يدور حول هذا المدار الموفق، في ساعات من المتعة مع مطالعتي لبعض السير الذاتية، مثل: "الحمد لله هذه حياتي" للإمام عبدالحليم محمود، و"حياتى فى حكايتي" للإمام حسن الشافعى.  

المؤلف انتقى أطايب الإبداع، وقدمها موفورة شهية للقراء، في نسيج تحليله وعرضه، فيقدم قطوف من "قصائد قلبي" للشاعر غازي القصيبى، وغيرها من ثمار إبداع أعلام الكتاب

تقييم المبدع بين الأجيال: 
ويشير الكتاب لفكرة التقويم الحقيقي للنصوص الأدبية، من خلال مسار الزمن، وتعاقب الأجيال، ويوجزها بقوله ص 77: "تذهب مقولة نقدية إلى أن أعمال المبدع لا تقوم تقويما حقيقا إلا بعد سنوات طويلة من رحيله وغياب أبناء الجيل الذي عاصروه ليأتي جيل آخر يتعرف عليه من خلال إنتاجه ونتاجه فقط بعيدا عن أي مؤثرات عاطفية أو شخصية، قد تطبع أو تحكم آراء الذين عاصروه وأحبوه أو اختلفوا معه"، وهو تبرير منطقي يؤدي إلى التجرد في الرؤية والحكم، بالتالي تقدم الزمن قد يؤدي إلى موضوعية النقد بشكل أوفق.
هل النقد يكتب شهادة ميلاد الأعمال الأدبية؟ 
ثم ينطلق الكتاب لسؤال نقدي آخر مهم، ولافت للتأمل، ويطرحه للتفكير وتداول وجهات النظر، عن قيمة النقد الأدبي في تقدير الأعمال الأدبية، يقول ص 79 عن باكثير، بمقولة الكاتب أنيس منصور عن أصالة الفنان: "الأعمال الإبداعية تتحدث عن نفسها، وليست بحاجة إلى ناقد او نقاد كي يكتبوا لها شهادة الميلاد، وإنما الفن العظيم الصادق هو الذي يؤكد وجوده، ولا تنتهى بصمت ناقد أو نقاد".  
وأعتقد أن هذا المفهوم المقدم يميل لما قيل عنه "موت الناقد" في عصر الوسائط الحديثة، حيث تحول المبدع لناشر، والقارئ إلى ناقد يميل للانطباعية، حيث يؤثر القراء أبلغ الأثر في توجيه مؤشرات القراءة، وبالطبع أقدر النقد الأكاديمي، وأهميته في تنقية شوائب الإبداع، وتصويبه، والتفاعل معه، وتفسيره، وتجسير المعرفة النقدية لذائقة القراء، ثم بناء خبرات الكتابة وأصول وسمات الأنواع الأدبية.  
الشعر سماء بحجم ورقة الكتابة: 
يقدم المؤلف مفهوم الشعر الحقيقي، من خلال تناوله شخصية الشاعر نزار قباني، وفسر قيمة الشعر عندما يتغنى به الناس، وهنا جدوى الأدب ومتعته، يقول ص 123 : 125 (بتصرف كبير): "الشعر عند نزار قيمة تعلو فهو سماء بحجم ورقة الكتابة، وقد جعل الشعر في دائرة اهتمام المتعلمين العاديين الذين لم يدخل الشعر من قبل في إطار اهتمامهم، لقد اكتشف أن اللغة العربية لغة سماعية في حروفها وألفاظها، موسيقي حالمة فاستثمر هذا الجانب ووظّفه من خلال قاموس لغوي برنين موسيقي جمالي، هي لغة تحتفي بالفصحي وتستعبن بكل ما هو عامي من أصل فصيح، فهو جمع في لغته الشعرية بين السهولة والأناقة بألفاظ حالمة موسيقية شديدة الرقة تارة وشديدة التوحش تارة أخرى. فالشعر لغة القلوب يقول الشاعر القديم: 
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ** فليس خليقا أن يقال له شعر
القصيدة لديه ليست مجرد صورة وأخيلة وموسيقي ولكنها قبل هذا وبعده مضمون، فلا قيمة عنده لأي تعبير جميل ما لم يعبر عن مضمون واضح وفكر متميز، فوظيفة الشعر إمتاع الوجدان والرقي بالعقل والتعبير عن العصر". 
جسر الكلمات: 
ثم يقدم فكرة التعاطف مع النص لا مع المؤلف، ويصف معبر الإبداع، ومثلث العملية الفنية الفاعل، يقول ص 135 (بتصرف): "العبرة في جودة القصيدة لا تكمن في محتواها فقط، وإنما تكمن بالدرجة الأولى في كيفية تقديم هذا المحتوى وإيصاله إلى الآخرين، فالعملية الإبداعية – كما هو معروف – تتكون من ثلاثة عناصر مبدع ونص ومتلق، وتحليل العمل الأدبي يجب ألا يتجاهل أيا من العناصر الثلاثة فهي تكمل بعضها. إن المبدع الجيد هو الذي يتواري وراء نصه لا يريد تعاطف القارئ معه إنما يريد تعاطف القارئ مع النص أي يكون انفعاله النفسي والجمالي نابعا من ذات القارئ".
اختيار المرء وافر عقله:
ويستمر الكتاب في تقديم لقطات فكرية، وتحليل عميق، بأفكاره المحكمة، وبنائه المنهجي في التراجم بالمزج بين التحليل والمتعة والربط الثقافي، فيقدم مما أشرت به في هوامش الكتاب عن ما آراه "الوطن المقهور في رؤية الشعراء"، وما يراه المؤلف حول "الشعر تصوف" في فكر الشاعر أحمد زكي أبو شادي. 
كما كان اختيار المرء وافر عقله، فقد انتقى المؤلف أطايب الإبداع، وقدمها موفورة شهية للقراء، في نسيج تحليله وعرضه، فيقدم قطوف من "قصائد قلبي" للشاعر غازي القصيبى، وغيرها من ثمار إبداع أعلام الكتاب.