
"قلق الأمسيات" رؤية نادرة للحياة الريفية والدينية في هولندا
تعتبر الشاعرة والروائية ماريكا لوكاس رينفيلد واحدة من النجوم الصاعدة في الأدب الهولندي المعاصر.
وفي عام 2018 نشرت روايتها الأولى "قلق الأمسيات" التي أصبحت من أكثر الروايات مبيعا ونالت استحسانا واسعا باعتبارها أحد أفضل روايات العام، وهي تحكي قصة عائلة بروتستانتية من المزارعين في حداد على وفاة أحد الأطفال، وفيها يتوافق السرد من نواحٍ عديدة مع رؤى عالم رينيفيلد الشعري: السرد الملئ بالحيوية والصور والتخيلات الغنية بالدلالات، واللغة التجريبية، والشاعرية، وهي مقتبسة من جزء حقيقي في حياة رينفيلد وهو وفاة أخيها الكبير عندما كانت في الثالثة.
وقد استغرقت كتابتها ست سنوات.
تقدم الرواية رؤية نادرة للحياة الريفية والدينية في هولندا، حيث تعيش بطلتها "ياس" البالغة من العمر عشر سنوات مع والديها المتدينين بشدة وإخوتها في مزرعة ألبان. وعلى الرغم من الروتين الكئيب في أيام الأسرة، تمتلك ياس طريقة فريدة لتجربة عالمها في الطبيعة التي تحيط بها بعيدا عن تعاليم الكتاب المقدس.
لكن ذات صباح جليدي، تمزق إيقاع حياة الأسرة المنضبط بسبب حادث مأساوي يتوفى فيه شقيقها، فتنهار الأسرة في جنون الحزن.
وقبل وفاة الابن ماتياس، كان تدين الوالدين يبلغ درجة العقاب، الوظائف الجسدية مصدر للعار، حيث يبدو الأمر كما لو أن التعاليم عن الخطيئة والتكفير عن الجسد تتورط بشكل مؤلم مع خسارة الأسرة، ومحاولاتها اليائسة للسيطرة على ذواتها.
بتدهور أوضاع الأسرة النفسية والسلوكية، تقنع ياس نفسها بأنها تتحمل مسؤولية موت شقيقها نظرا لأن معاناة والديها تجعلهما بعيدين بشكل متزايد عن مراقبة الأجواء المحيطة بالمزرعة ومن ثم حركة الأطفال.
كما إن النزعة الدينية المتشددة لدى الوالدين خلقت لدىياس وإخوتها فضولا بشأن الموت الذي يقودهم إلى طقوس وخيالات مزعجة، حيث تحلم ياس، وهي ترتدي معطفها الشتوي الأحمر، بـ "الجانب الآخر"/ "الخلاص"، ولا تعرف إلى أين سيقودها هذا الحلم.
بطلة الرواية تؤمن بأنها هي من قتلت أخاها عندما دعت الرب أن يأخذه بدلا من أرنبها
وحصلت الرواية التي ترجمها محمد عثمان خليفة وصدرت عن دار العربي على جائزة البوكر العالمية للعام 2020، لتعد رينفيلد أول كاتبة هولندية تفوز بجائزة البوكر العالمية وأصغر من فاز بها "وُلدت عام 1991"، وقد أكد "تيد هودجكينسون "رئيس هيئة "الكلمة المنطوقة" وأحد محكمي جائزة البوكر، أن بطلة الرواية "ياس" تؤمن بأنها هي من قتلت أخاها عندما دعت الرب أن يأخذه بدلا من أرنبها.
ينقلب حال الأسرة بعد وفاة الابن الكبير "ماتياس"، فارتدت "ياس" معطفها الأحمر وقررت ألا تخلعه أبدا.
وتحوَّل حزن أخيها الآخر إلى قسوة، وحلمت أختها الصغيرة بالهرب من المزرعة.
ولفت إلى "ن "هذه الرواية ليست مثل تلك الروايات التي تجعلك تعود للخلف بظهرك لكي تستوعب ما حدث فيها للتو، بل هي رواية تجذبك داخلها لتصبح جزءا من عالمها ما إن تقرأ أول كلمة فيها".
وكتب "بارول سجال" في جريدة نيويورك تايمز "رواية أولى عن البراءة التي حطمها الحزن وكيف تقدِّم لنا العزاء والذعر معا"، فيما رأت "هولي ويليامز" في الغارديان أنها "رواية لا تخجل من أن تذكر القسوة صراحة، ولكنها في الوقت نفسه قسوة مبررة، فهي تعرِّف القارئ على راوية لا تتبنى أسلوبا سرديا صحيحا لكنها مع ذلك لا يمكن أن تُنسى".
إضافة إلى الكتابة، ما زالت "رينفيلد" تعمل حيث نشأت مع عائلتها في مزرعة ألبان في ريف هولندا.
ويذكر أنها قبل فوز روايتها بالبوكر فازت ذات الرواية بجائزة "ليبريس" الأدبية الهولندية الرفيعة عام 2019. كما فازت رينفيلد كذلك بجائزة أفضل ديوان شعري عام 2015 وهي "مانبلاد التشجيعية" وعام 2016 جائزة "سي بادينج".

مقتطف من الرواية
في صباح اليوم الثالث، سألني أبي من عند أسفل الدرج عما إذا كنت أرغب في الذهاب معه إلى المزارع "يانسن" لنأتي ببعض شتلات الفجل لزرعها في رقعة الأرض الجديدة.
كنت أفضل البقاء إلى جوار أخي حتى لا يذوب في غيابي، ويذوب من حياتنا مثل ندفة ثلج، ولكنني لم أرغب في أن أخيب أمل أبي، ولذلك ارتديت معطفي الأحمر فوق ردائي، وأحكمت إغلاق السحَّاب حتى لامس ذقني.
الجرار قديم لدرجة أن جسدي كان يرتج مع كل نتوء في الأرض، واضطررت إلى التشبث بحافة النافذة المفتوحة.
كنت أنظر بقلق إلى والدي، آثار النوم ما زالت على وجهه، وقد تركتْ المرتبة المائية بصمتها على جسده.
اهتزاز جسد أمي يمنعه من النعاس، وكذلك تمايل جسده هو، أو فكرة أن الأجساد تكون أثقل عند سقوطها في الماء. غدا يشتريان مرتبة عادية.
قرقرت معدتي.
- أريد أن أدخل الحمَّام.
- ولماذا لم تذهبي إلى الحمام عندما كنا في المنزل؟
- لم أكن أحتاج إليه حينها.
- مستحيل، لا أحد يحتاج إلى الحمام فجأة.
- لكن هذه هي الحقيقة. أعتقد أن عندي إسهالا.
أوقف أبي الجرار عند الأرض، وأطفأ المحرك، ومد يده ليفتح الباب لي.
- اقضي حاجتكِ هناك، عند شجرة الدردار.
سارعت بالنزول من الجرار، وخلعت معطفي وملابسي وبنطالي حتى ركبتيَّ. تخيلت الإسهال وهو يتناثر على العشب مثل صوص الكراميل الذي تسكبه جدتي فوق بودنج الأرز، بينما أعتصر مؤخرتي اعتصارًا، اتكأ أبي على إطار الجرار، وأشعل سيجارة، ثم نظر إليَّ:
- لو أطلتِ التبرز أكثر من ذلك، سيحفر حيوان الخُلد في ثقب مؤخرتك.
بدأت أتصبب عرقا، وأنا أتخيل عيدان القطن التي حدثني عنها أبي، وأتخيل حيوانات الخُلد وهي تنهش جثة أخي بعد أن ندفنها، والطريقة التي ستنقب بها كل شيء داخلي بدوري بعد ذلك.
برازي ملكي، ولكن ما إن يسقط فوق العشب، يصير ملكا للعالم.
- ادفعي وحسب.
قالها أبي، قبل أن يقترب مني ليناولني منديلا مستعملا.
عيناه قاسيتان. لم أعتد رؤية هذا التعبير على وجهه من قبل، على الرغم من أنني أعرف أنه يمقت الانتظار، لأنه يجبره على الوقوف ساكنا فترة طويلة، وهكذا يبدأ عقله في التفكير في كل اتجاه، وهكذا يشعل السيجارة تلو الأخرى.
لا أحد في القرية يحب أن يبقى ساكنا بلا حراك، فقد تفسد المحاصيل، ونحن لا نعرف إلا ذاك الحصاد الذي تنبته الأرض، ونجهل ذلك الذي ينمو بداخلنا.
استنشقت دخان أبي حتى تصبح همومه همومي. وبعدها، تلوت صلاة سريعة للرب حتى لا يصيبني بالسرطان من دخان السيجارة ووعدته أنني سأساعد على هجرة الضفادع ما دامت قد سمحت سني بذلك.
"البَارُّ يَهْتَمُّ بِحَاجَةِ بَهِيمَتِهِ".
قرأتها ذات مرة في الكتاب المقدس، وعرفت أنني في أمان من الإصابة بأي مرض.
- راحت الحاجة.
سحبت بنطالي وهندمت ملابسي، وارتديت معطفي وأحكمت إغلاق سحابه حتى ذقني.
بوسعي الآن أن أحتفظ ببرازي. ولن أكون بحاجة إلى فقدان أي شيء أرغب في الاحتفاظ به بعد الآن.
نهض أبي عن جُحْر الخلدِ، وهو يقول لي:
- اشربي الكثير من الماء، فهذه طريقة مجربة مع العجول أيضا. لو لم تفعلي لخرج من الناحية الأخرى ذات يوم.
وضع يده على رأسي، وحاولت المشي منتصبة القامة أسفل راحة يده قدر استطاعتي. الآن صار عليَّ الانتباه إلى شيئين في كلا طرفي جسدي.
عدنا إلى الجرار.. كانت رقعة الأرض الجديدة أكبر عمرًا مني، ومع ذلك لم يتوقفوا عن ذكرها بالجديدة.
ذكرني هذا بأرض كان يعيش فيها طبيب عند سفح السد، حيث توجد الآن ملاعب تنتهي عند جرف، ومع ذلك ما زلنا ندعوها بـ"أرض الطبيب العجوز" في كل مرة نخطط للعب هناك.
- هل تعتقد أن اليرقات والديدان ستأكل "ماتياس"؟
سألته ونحن نعود إلى الجرار. لم أجرؤ على النظر نحوه.
ذات مرة تلا أبي من سفر "إشعيا": "طُرِحَتْ كُلُّ عَظَمَتِكَ فِي الْهَاوِيَةِ مَعَ رَنَّةِ عِيدَانِكَ، وَأَصْبَحَتِ الرِّمَمُ فِرَاشَكَ وَالدُّودُ غِطَاءً لَكَ"، والآن كنت قلقة من أن يحدث هذا لأخي أيضًا.

- ادفعي وحسب.
قالها أبي، قبل أن يقترب مني ليناولني منديلا مستعملا.
عيناه قاسيتان. لم أعتد رؤية هذا التعبير على وجهه من قبل، على الرغم من أنني أعرف أنه يمقت الانتظار، لأنه يجبره على الوقوف ساكنا فترة طويلة، وهكذا يبدأ عقله في التفكير في كل اتجاه، وهكذا يشعل السيجارة تلو الأخرى.
لا أحد في القرية يحب أن يبقى ساكنا بلا حراك، فقد تفسد المحاصيل، ونحن لا نعرف إلا ذاك الحصاد الذي تنبته الأرض، ونجهل ذلك الذي ينمو بداخلنا.
استنشقت دخان أبي حتى تصبح همومه همومي. وبعدها، تلوت صلاة سريعة للرب حتى لا يصيبني بالسرطان من دخان السيجارة ووعدته أنني سأساعد على هجرة الضفادع ما دامت قد سمحت سني بذلك.
"البَارُّ يَهْتَمُّ بِحَاجَةِ بَهِيمَتِهِ".
قرأتها ذات مرة في الكتاب المقدس، وعرفت أنني في أمان من الإصابة بأي مرض.
- راحت الحاجة.
سحبت بنطالي وهندمت ملابسي، وارتديت معطفي وأحكمت إغلاق سحابه حتى ذقني.
بوسعي الآن أن أحتفظ ببرازي. ولن أكون بحاجة إلى فقدان أي شيء أرغب في الاحتفاظ به بعد الآن.
نهض أبي عن جُحْر الخلدِ، وهو يقول لي:
- اشربي الكثير من الماء، فهذه طريقة مجربة مع العجول أيضا. لو لم تفعلي لخرج من الناحية الأخرى ذات يوم.
وضع يده على رأسي، وحاولت المشي منتصبة القامة أسفل راحة يده قدر استطاعتي. الآن صار عليَّ الانتباه إلى شيئين في كلا طرفي جسدي.
عدنا إلى الجرار.. كانت رقعة الأرض الجديدة أكبر عمرًا مني، ومع ذلك لم يتوقفوا عن ذكرها بالجديدة.
ذكرني هذا بأرض كان يعيش فيها طبيب عند سفح السد، حيث توجد الآن ملاعب تنتهي عند جرف، ومع ذلك ما زلنا ندعوها بـ"أرض الطبيب العجوز" في كل مرة نخطط للعب هناك.
- هل تعتقد أن اليرقات والديدان ستأكل "ماتياس"؟
سألته ونحن نعود إلى الجرار. لم أجرؤ على النظر نحوه.
ذات مرة تلا أبي من سفر "إشعيا": "طُرِحَتْ كُلُّ عَظَمَتِكَ فِي الْهَاوِيَةِ مَعَ رَنَّةِ عِيدَانِكَ، وَأَصْبَحَتِ الرِّمَمُ فِرَاشَكَ وَالدُّودُ غِطَاءً لَكَ"، والآن كنت قلقة من أن يحدث هذا لأخي أيضًا.
فتح أبي باب الجرار دون أن يرد عليَّ. وفزع عقلي وهو يرسم صورة لجثة أخي الممتلئة بالثقوب، مثل أوراق الفراولة في الحقل.
عندما وصلنا إلى حيث شتلات الفجل، وجدنا بعضها فاسدا. علق ذلك اللُب الأبيض الطري الذي يشبه الصديد بأصابعي عندما التقطته.
ألقى بها أبي بلا مبالاة في المقطورة. سقطت في قلبها بصوت مكتوم. كلما نظر إليَّ، احمرت وجنتاي.
فكرت في أن علينا أن نتفق على أوقات لا يمكن فيها لوالدي النظر إليَّ، كما نفعل عندما نحدد أوقاتا لمشاهدة التلفاز. ربما كان هذا هو السبب الذي منع "ماتياس" من العودة إلى المنزل في ذلك اليوم؛ لم يعد لأن خزانة التلفاز كانت مغلقة ولم يكن أحد يراقبنا.
لم أجرؤ على طرح أي أسئلة أخرى على والدي بشأن "ماتياس" وألقيت آخر حزمة فجل في المقطورة، ثم اتخذت مكاني بجانبه في مقعد الجرار.
كان هناك ملصق على الحافة الصدئة فوق مرآة الرؤية الخلفية، "احلبوا البقرة، لا المزارع".
عدنا إلى المزرعة، وسحب أبي و"أوبي" المرتبة المائية، ذات اللون الأزرق الداكن، إلى الخارج.
فتح أبي الفوهة وغطاء الأمان وترك المياه تتدفق في الفناء. لم يمضِ وقت طويل قبل أن تتشكَّل طبقة رقيقة من الجليد.
لم أجرؤ على الوقوف عليها، خشيتُ أن أقع في قلبها. انكمشت المرتبة داكنة اللون ببطء، مثلما يحدث لعبوة بُن محكمة الغلق.
عقب ذلك، لف أبي المرتبة ووضعها على جانب الطريق، بجوار العربة اليدوية التي تحتوي على شجرة عيد الميلاد، والتي ستأخذها شركة جمع النفايات يوم الإثنين. لكزني "أوبي"، وهو يقول:
ـ ها هو ذا.
حدقت إلى المكان الذي كان يشير نحوه، فرأيت سيارة نقل الموتى السوداء تقترب من ناحية السد؛ اقتربتْ أكثر فأكثر، مثل غراب كبير، ثم انعطفتْ يسارًا في الدرب إلى المزرعة، ومرت فوق طبقة الجليد التي تكوَّنت من مياه المرتبة، والتي تصدعت بالفعل. ترجل منها القس "رينكيما" برفقة اثنين من أعمامي.
كان أبي قد اختارهما والمزارع "إيفرتسن" والمزارع "يانسن" لحمل النعش المصنوع من البلوط إلى داخل عربة الموتى، ومن ثم حمله لاحقا إلى داخل الكنيسة، حيث ننشد من حول التابوت الترنيمة 416، لنصاحب الفرقة التي عزف معها "ماتياس" الـ"ترومبون" طيلة سنوات، وبقي الأمر الصائب الوحيد في تلك الظهيرة هو أن الأبطال يُحملون عاليا على الدوام.
ارتدى القبعة الصوفية وابتسم. لمحت مقوم أسنانه بأربطته المتعرجة الزرقاء المرنة.
نادى أمي:
ـ سأعود قبل حلول الظلام.
دار على عقبيه مجددًا عند الباب ليلوح إليَّ مودعًا، في مشهد سأظل أستعيده وأسترجعه في عقلي إلى أن تعجز ذراعه عن الحركة، وإلى أن أشك فيما إذا كنا قد ودعنا بعضنا بعضا من الأساس.