قواعد المسرح الرقمي

الحاجة تدفع البعض أحيانا إلى تقعيد المصطلح الجديد لاسيما وهو يحبو في انطلاقته الأولى بحثا عن التعريف المتفق عليه معجميا واصطلاحيا.
أنا من أوائل المسرحيين العرب الذين دعوا وسعوا للترويج إلى أهمية استثمار التقنيات الرقمية
المسرح الرقمي هو حصيلة ممثلين وملايين من وحدات التخزين الرقمية صفر واحد

لا قاعدة هناك في الفن. ولا قواعد ثابتة هناك في الإبداع الفني وفي مختلف التخصصات الفنية، ذلك لأن الفن والإبداع الفني يبحثان في مناطق مجهولة من الابتكار والتجديد، يهيمان في القبض على المطلق واللامتوقع، كسرا لكل القواعد التي من شأنها التضييق على فعل التجريب الحركي ومساحة الإبداع الفني الخلاقة والمنفتحة نحو مساحات لا حدود لها البتة.
لكن الحاجة تدفع البعض أحيانا إلى تقعيد المصطلح الجديد لاسيما وهو يحبو في انطلاقته الأولى بحثا عن التعريف المتفق عليه معجميا واصطلاحيا، أو في محاولة السعي نحو تجذير المفهوم البكر لظاهرة جديدة ما وحصرها اصطلاحيا ومفاهيميا بهدف الوصول إلى مفهوم علمي واضح ورصين، وهذا فعلا ما نعتقده هنا، وما يحتاجه مصطلح مثل "المسرح الرقمي" الذي وضعناه عربيا لأول مرة ومنذ عام 2005 واقترحنا له تعريفات أولية وهي إلى الآن غير ثابتة بحكم حداثة المصطلح واكتشافاتنا المستمرة عنه وحوله عالميا وعربيا، لأننا بين فترة وأخرى نكتشف أن هذا المصطلح (المسرح الرقمي) قد تم تداوله عالميا منذ تسعينيات القرن الماضي سواء بالتسمية نفسها أو بمسميات مجاورة لا تخرج عنه مفاهيميا أو تطبيقيا مثل (المسرح التكنولوجي) أو (المسرح الإلكتروني) أو (المسرح الافتراضي) أو (المسرح عبر الإنترنت) أو (المسرح الوسائطي) وأخرى غيرها من مسميات التجأت إلى المعنى ذاته والمفهوم تنظيرا وتطبيقا.
مجلة فرنسية متخصصة في النقد المسرحي تحمل اسم لعب  jouer كانت قد خصصت في واحد من أعدادها عام 2012 ملفا عن المسرح الرقمي وتحت نفس عنوان المصطلح، كذلك ما قدمه لنا قبل سنوات قصار المخرج الإيطالي انطونيو بيتزو في كتابه "المسرح والعالم الرقمي" من مفاهيم ومصطلحات أخرى قاربت واتصلت كثيرا بالمسرح الرقمي، وغيرها من المراجع الجديدة التي أسهمت في توسعة دائرة الاهتمام العلمية والأكادديمية عربيا ومحليا. 
أما اليوم فنوجه أنظار المهتمين والمختصين نحو كتاب "الشاشات على خشبة المسرح" ج2 منه الذي جاء تحت إشراف بياتريس بيكون قالين ترجمة نادية كامل، من إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الواحد والعشرين، وهو يضم مجموعة من الموضوعات ذات العلاقة بعدد كبير من البرامجيات الحاسوبية الرقمية، وكيف احتلت الصدارة في الشاشات على خشبات مسارح العالم المختلفة مستثمرة هذه التقنيات الرقمية في تأسيس دراماتها المسرحية عبر مختلف ابتكارات التوظيف والاستثمار الذي من شأنه أن يخلق عوالم افتراضية مسرحية تتفاعل مع الخشبة، وهي تبث السحر والجمال العالي بهدف زحزحة الثابت وتفجير المتحرك والتحليق به نحو فضاءات مسرحية خلاقة. ومن هذه الموضوعات التي جاءت في الكتاب نذكر: "انكسار أشعة الأجساد داخل الفضاء الالكتروني حول بعض العروض التي أخرجها جورجيو باربيرو كوستي، بقلم ديدييه بلاسار، وشاشة الفكر أو الشاشات في مسرح روبير لوباج، بقلم شانتال هيبير، والمسرح والحقيقة الافتراضية، مقدمة لمسير مارك، بقلم فرانك بوشار، ونص مسرح وفيديو، بقلم جان – فرانسوا بييريه، والتشكيل النفسي للفضاء المسرحي، حديث مع جوزيف سفوبودا وميلينا هونزيكوفا عن الصورة المسرحية .. " وموضوعات مقالية أخرى عديدة اهتمت بذات السياق المسرحي الصوري الرقمي والفيديوي والسينمائي الذي من شأنه تفعيل الفضاءات المسرحية جماليا وفكريا وإنشائيا.

المسرح الرقمي
المسرح الرقمي هو مسرحنا القادم لا محال

لكن من المهم التوقف هنا عند ما طرحه كارل بادريزا سينجلا في دراسته التي جاءت تحت عنوان "المسرح الرقمي" يقول في مقدمتها: "بعد المرحلة التي شكلها في وقت ما مسرح التأثير، فان لافيورا دل باوس في خضم بحثها عن النموذج المثالي القديم ألا وهو المسرح الكامل، تتقدم الآن نحو ما أطلق عليه اسم (المسرح الرقمي). الطريق وعر وطويل، مليء بالعقبات والمنعطفات، ولكننا نحن الفيوريس نؤمن بمسرح يرغب في تقديم الإنسان على المسرح وفق مستوى أكثر سموا، دون عقد، فالمسرح الجديد لم يوجد لكي يقلد الإنسان بل لكي يبني الإنسان الأصيل". 
المسرح الرقمي لدى سينجلا، هو "ذلك الذي يعتمد نظاما ثنائيا، أداة عمل لبناء مختلف الميادين وهو من "ناحية أخرى مسرح قامت الأصابع ببنائه، والتحكم فيه بشكل كامل". ثم يمر على تحديد مفهوم موجز وسريع عن مسرحه الرقمي الذي يتلاعب بالمعلومة لأنه دراما العالم كونه حقيقة ذاتية لا حقيقة موضوعية على حد قوله، منتقلا إلى شرح السيناريو الخاص به الذي يغوص بالمكان الرامز إلى الزمن اللانهائي، وصولا إلى الممثلين الذين: "يتحركون بطريقة مضحكة مثل الدمى التي حركها القدر، يبالغون في الأداء، يتحركون برعونة مثل الدمى المتحركة يضربون بعضهم بعضا، في كل أداء، هناك شخصيات رئيسة، الآخرون محايدون لا يقومون إلا بالبناء أو الهدم أو يظلون في أماكنهم".
ثم يختم، بوضعه (خمس قواعد للمسرح الرقمي) وهي: " 1- المسرح الرقمي هو حصيلة ممثلين وملايين من وحدات التخزين الرقمية صفر واحد تجوب شبكة الفيديو كونفراس، حاملة معها صورا وأصواتا وحركة تنقلها من مكان إلى آخر. 2- المسرح الرقمي مثله مثل أي مسرح آخر، يتم بشكل مباشر وبطريقة حقيقية بتفاعل كامل بين الممثلين الذين يعملون من خلاله. 3- لا يحتاج ممثلو المسرح الرقمي لأن يكونوا في أماكن أو مدن أو بلاد مختلفة لأنه قد تم ربطهم بواسطة وحدة تحكم عن بعد للفيديو كونفراس . 4- يسمح المسرح الرقمي بإعادة تغذية الصورة كقاعدة للتواصل بين الممثلين، يتم الأمر وفقا لسلسلة من الصور تمر من مكان إلى آخر من خلال الشبكة خلال بضع أجزاء من آلاف من الثانية، أثناء ذلك الارتباك، يجد الممثلون نقطة التوافق في حركاتهم. 5- المسرح الرقمي، رغم ارتكازه على التكنولوجيا، يعود بطريقة حاسمة إلى شكل المسرح البسيط الأولي، الساحر، القديم، من سحر الحركة والرقص والإرشادات والطقسية كما لو أن المسرح قد عاد ليبدأ من الصفر". 
في ضوء ما تقدم، يعلن كاتب السطور هنا اختلافه ضد أغلب ما جاءت به هذه القواعد الخمسة للمسرح الرقمي التي وجدت على رابط في الإنترنت منذ عام 1997، لأن هذه القواعد قد قيدت المفهوم وحصرته في البرامجيات الحاسوبية المستخدمة لإنتاج صورة مسرحية مبرمجة لا روح للدراما فيها، أو هي نسيت هذه القواعد أنها تتعامل مع دراما مسرحية فيها من الثنائيات والصراع والصورة والتحولات والتأثيرات الفكرية والجمالية على فكر وروح المتفرج وتثوير تفاعله الذي ينبغي، لأن ما عنيناه نحن في وضع نظريتنا عن المسرح الرقمي، لا ذلك المفهوم المرتبط بعلوم البرامجيات حسب، بل ذلك المفهوم المرتبط بالمسرح وعرضه المسرحي في الـ (هنا) و(الآن) ، لأنني - وأقولها بتواضع شديد - من أوائل المسرحيين العرب الذين دعوا وسعوا للترويج إلى أهمية استثمار التقنيات الرقمية الإلكترونية، من أجل إنعاش الفضاء المسرحي جملا بهيا وساحرا، لأن المسرح الرقمي هو مسرحنا القادم لا محال، ولأنني قصدت بالمسرح الرقمي: هو ذلك العرض المسرحي الحي المقدم على خشبة المسرح، والذي يشاهده الجمهور في الـ (هنا) و(الآن) وهو يستثمر التقنيات الرقمية التي من شأنها التحليق جماليا وفكريا بفضاءاته وعوالمه الدرامية ليتجلى فيها انفعال التلقي وانعكاسه على الذائقة بمختلف مستوياتها.