"قيامة البتول الأخيرة" صراعات الذات المبدعة وأزمة الوطن

الرواية علامة متميزة في مسيرة زياد كمال حمّامي الإبداعية التي تتجاوز ربع القرن؛ أنتج خلالها أربع مجموعات قصصية، وأربع روايات.
الوطن السوري في حرب ضروس منذ سنوات، اشتعلت من أجل التحرر والحرية، وانحرفت بفعل التدخلات الإقليمية والدولية
إذا كان الواقع في الوطن شديد السوء، فلا يجب أن لا يجعلنا صرعى في حومة الفساد

تشكل رواية "قيامة البتول الأخيرة" للروائي السوري زياد كمال حمّامي - والصادرة عن دار نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب، سوريا، 2018 -  علامةً متميزة في مسيرته الإبداعية التي تتجاوز ربع القرن؛ أنتج خلالها أربع مجموعات قصصية، وأربع روايات، متنوعة الموضوعات والأشكال والطرائق، بما يشي أن رصيده الإبداعي شديد العمق، على المستوى التجربة والرؤية، وأيضا امتلاك الأدوات والطرائق السردية، وهو ما نراه جليا في روايته قيامة البتول؛ وليثبت لنا أن التميز الإبداعي لا يتأتى من عمل أو عملين كما يتوهم البعض، وإنما يتأتى من دأب المبدع نفسه، وسعيه المستمر لإيجاد تراكم إبداعي، ينوّع فيه من طرائق سرده، ويركز عدساته الرؤيوية على الكثير من الموضوعات، كي يعيد تضفيرها، وتقديمها إلى القارئ.
نقول هذا، لأن المبدع الحقيقي هو الذي يتخذ من الجدية شعارا وممارسة له، لا أن يصدر كتابا أو كتابين، ثم يشغل نفسه بصراعات الأدباء، ونميمة المثقفين، وجلسات المقاهي، ولا يطور من ذاته، ولا رؤيته، ولا تقنياته الفنية، فتكون المحصلة في النهاية اجترارا وتكرارا لما استهل به مسيرته الإبداعية، دون إضافة ملموسة.
ونحسب أن زياد كمال حمامي من الصنف الموهوب الساعي إلى التميز، وقد ظهر ذلك جليا في روايته "قيامة البتول" – موضع هذه الدراسة - حيث وضحت بجلاء قدراته اللغوية العالية، ممثلة في ثراء قاموسه اللغوي، وعنايته الشديدة بالتفاصيل، وقدرته على تضفير الأحداث، وتعميق الشخصيات، وبث عشرات الرسائل: الظاهرة والمبطنة، دون أن يملّ القارئ، بل يصوغها بمقدرة كبرى على التشويق، توازيها رؤية فكرية عميقة، مع شخصيات متنوعة، وأحداث متلاحقة؛ إما في الزمن الماضي، عبر توظيف تقنية الاسترجاع، التي يبرع فيها حمّامي، أو من خلال أحداث الحاضر التي تتالى في التلقي الآني، حيث تتابع الأحداث وتتوالى مع المستجدات على الساحة في مدينة حلب، وما يصيب سكانها جراء تطورات الحرب، وأيضا أشكال التآمرات وأصناف المتآمرين الذين ينشطون في زمن الحرب، حينما يتوارى القانون، وتتداعى القيم والأخلاق، ومن ثم يصبح القارئ طيلة صفحات روايته في حالة من اللهاث،  وراء تسارع الأحداث، ليطالع أبعاد الشخصيات والتطورات والمواقف التي يجيد مبدعنا في رسمها؛ ليس على المستوى الحسي فقط، وإنما يجمع ما بين الحسي والمعنوي، والحركي والنفسي، والفكر والعمل، فلا نفرغ من الرواية، إلا وقد عشنا مع هذه الشخصيات عن قرب، بل وترسخت في وجداننا، ولن تفارق مخيلتنا. 

novel
تراكم إبداعي

تُفتتَحُ الرواية مع بطلها "عبدالسلام"، ذلك الفنان النحّات وهو ممسك بإزميله، ليشكل تمثالا من صخرة صلدة، تتابع ضرباته الناعمة على رأس الحجر، لعله يفلح في تشكيل تمثال معبر عن الحرية. وتبدو المفارقة في مطلع الرواية، عندما يصف الساردُ الحجرَ الصلد وهو لا يزال في طور التكوين بأنه مثل زهرة اللوتس، وكما يقول: "تلك القطعة التي تشبه في أخاديدها وجه زهرة اللوتس التي تعيد تشكيل نفسها، بنفسها، وتنبض بكلّ ما هو مدهش ومختلف ومذهل" (ص11). فلم يأت ذكر اللوتس اعتباطا، وإنما له دلالة عميقة، ضمن البنية الفكرية التي تشكل العالم الروائي، حيث ترتبط دلالة زهرة اللوتس في العديد من الثقافات والحضارات القديمة، وفي عصور مختلفة بدلالة الخصوبة، فهي رمز للولادة وإله الشمس في الحضارة المصرية القديمة، وعند البوذيين تمثل طريق الإنسان نحو الازدهار والنقاء، كما تُتَخذ عند دعاة التنوير في العصر الحديث بوصفها علامة المبسطة لتعلم مفهوم التنوير، لأنها تمثل فكرة ارتفاع الإنسان من مستوى أدنى، مثل مستوى التفكير السلبي والمتمثل في الوحل والأوساخ؛ إلى عالم جديد يملؤه النقاء والنظافة والتفكير التفاؤلي. 
ولذا، نرى أن افتتاح الرواية بفعل يقوم به عبدالسلام، ليكون من حجر يشبه في نتوءاته وثنياته زهرة اللوتس، من أجل صنع تمثال يعبر عن الرواية؛ إنما يحمل الكثير من الإيجابية والروح التفاؤلية، وهو ما سنراه في خضم أحداث الرواية، والتي تتخذ منحى أقرب إلى الروايات البوليسية، إمعانا في التشويق، فقد قاوم عبدالسلام ما حيك له من الجميلة السائحة "الكندية" التي زارت مدينته "حلب" قبل الحرب بعام واحد وهي سوزانا، وقد أرسلت له رسالة بعد مغادرتها أنها يهودية، ومن مواليد مدينته نفسها، وقد حملت منه، وولدت صبيا أسمته يوسف، ودعته لهجرة وطنه، ولكنه رفض ذلك، هذا وفي بدايات الحرب الظالمة تم سرقة تمثال الإله "حدد"، من متحف المدينة - من قبل جماعة "أخوة الحليب"، وهو تمثال قديم يعود إلى الإله "حدد"، الذي هو تحفة فنية أثرية لا تقدر بثمن، وقد استقر بعد ذلك في بيت اليهودي إبراهام، فيتذكر ساعتها مقولة محبوبته ليزا: "إذا لم تستطع أن تغيِّر العالم، غيِّر نفسك، وكن من النخبة التي تستطيع أن تفعل ذلك" (ص284)، فلم يكن أمامه إلا أن يحافظ على ذاته من النجاسة، ويحفظ أخلاقه من سرقة تراث الوطن وآثاره، ويقدم نفسه فداء للفن والتاريخ ومن أجل الحفاظ على ذاكرة الوطن الذي ينتصر على الحب في النهاية، مثلما رأينا في نهاية الرواية، فسعى لإنقاذ التمثال بطريقته الخاصة، على الرغم من تمثيله لدور العضو الضعيف أمام أوامر إبراهام (ص312). 
ويصاب عبدالسلام من جراء ذلك في كتفه الأيمن، ثم الأيسر، وكانت الدماء تنزف منه، ويشعر بدفئها وهي تسيل على جسده، ومع ذلك استمر في قيادة الشاحنة، وتوجّه بها "نحو مدخل المتحف الوطنيّ، العريض، ولم يأبَهْ لصراخ حرّاس المتحف، وأزيز رشّاشاتهم، بل اجتاز المدخل بصعوبة قصوى، وأمام درج المتحف توقّف" (ص313)، ليضع التمثال في مكانه الحقيقي، وعندما أطلق الحراس عليه النار، لم يبال، فقد أدى مهمته، و"سقط على الأرض، مضرّجا بوطنه، نازفا، مشيرا بإصبعه إلى النعش، لحظتها، اقتربوا منه، نظر بعضهم إليه، وكأنّه يقرأ كتابا، أو يشاهد لوحة غريبة"( ص313). 
الرسالة هنا واضحة، إذا كان الواقع في الوطن شديد السوء، فلا يجب أن لا يجعلنا صرعى في حومة الفساد، خاصة بعدما تكشف للذات أن ما يحاك للوطن من مؤامرات ليس احتلالا ولا تدميرا، وإنما سرقة الذات الثقافية والحضارية، بل وسرقة التاريخ نفسه، ولذا انتفض عبدالسلام وواجههم، بفنه أولا، ثم بحب الطفولة لليزا بنت إبراهام، وذلك بخدعة حتى لا يستمر في التعاون معهم ثانيا، وكي يختم حياته بقيمة عظمى ثالثا.
فربما يكون هذا الفعل أشد مرات ومرات من المقاومة، والتي يمكن أن يقوم بها آلاف، ولكن إنقاذ تاريخ الوطن وذاكرته تحتاج لفداء وتضحية، خاصة في زمن الحرب، حينما يتمزق كل شيء: الأرض والدار والقيمة والإنسان، بعد تمزق الوطن.
فيمكن القول إن الرواية بدأت بفعل إيجابي يتمثل في عمل هذا التمثال ليكون رمزا للحرية، وهو الفنّان الذي أنجز العديد من المنحوتات متنوعة الموضوعات، فبعضها يعود لشخصيات تاريخية، وبعضها أشكال فنية معبرة، تنتمي لتيارات فنية مثل السريالية، كما نحت أيقونات دالة، ويبقى هذا التمثال هو رسالة الحرية. 

رواية
الجدية شعارا وممارسة

وقد صاغ هذا في صورة معبرة مباشرة في دلالتها (ص286)، نراها بتمثال مشابه لتمثال الحرية في أميركا، بإله يحمل مشعلا، ولكنه مشكل حسب الميراث الحضاري، وقد وضع التمثالين متجاورين، وتحتهما نعوت لهوية هذا التمثال بأنه عربي وأيضا محمل بكل عبق الحضارات المتتابعة في أرض الشام، من فينيقية إلى إسلامية. 
إن إدراك عبدالسلام مكانة التمثال المسروق، لأنه نحّات يعرف القيمة الفنية للتمثال، مثلما أوقن أن ذاته لا يمكن أن تنحدر للفساد والإذلال، فلا عجب أن يستمر في إكمال تمثاله، على الرغم من الصعوبات التي واجهته، ونجده وقد قاربت الرواية على الانتهاء، عاكفا في قبوه، مصمما على إكمال تمثاله، على الرغم من القذيفة التي انفجرت في صدر الفناء الخارجي من الدار، وكسرت النافذة الوحيدة في القبو، ولكن ظل عبدالسلام مع تمثاله، ويهمس له: "عليك أن تطير وترفرف عاليا" (ص299)، غير مبال بالقنابل المتتابعة، ولا باهتزاز الأرض تحت قدميه، ولا بتوسلات أمه، التي تهتف به بأنهم قد خرقوا الهدنة، وهما معرضان للموت، إلا أنه يستمر في نحت الجزء المتبقي من التمثال، بل نقرأ معه وصفا بديعا يقول فيه: "تتابع الاستماع إلى صوت الإزميل وأنّات الحجر، بينما تدور الأمّ بذهول حول وحيدها.. تدور حول التمثال.. يستمرّ في معزوفته على الحجر.. يسمع صوته الداخلي: لا أعرف كيف أفهم الحياة، وإذا كنتُ في لوحاتي ومنحوتاتي ألهو، أو أظنّ نفسي مشروع فنان، إلّا أنّني دمّرتُ أحلى أيّام شبابي، حتّى حبّي الأوّل، لا يخلو من  المغامرة، والخطورة، ولم أكن واعيا لكلّ ما يحيط بي، ويدمّرني، كم كنتُ أحمقَ، مخدوعا، ميؤوسا من شفاء أحلامه، ولكن لا، بل ألف لا للهزيمة" (ص300). 
وتتخاتل أمام عينيه - وهو يعمل في تمثاله- مسيرة حياته، التي كانت ما بين حب وطيش ومغامرات، ولم ينتبه كثيرا لموهبته الفنية، لذا، نراه يعترف بكل شفافية وبخطابية بأنه كان أحمق، وليس أمامه إلا مواصلة إبداعه في تمثال الحرية. 
ربما يكون المعنى المقصود واضحا مباشرا في المتن السردي، ويتمثل في المطالبة بالحرية للوطن والشعب وللمثقف والفنان ورجل الشارع، فهو رمز تقليدي نوعا ما، ولكنها موظفة فنيا، فالوطن السوري في حرب ضروس منذ سنوات، اشتعلت من أجل التحرر والحرية، وانحرفت بفعل التدخلات الإقليمية والدولية، حتى أصبحت الحالة السورية أشد ألما ونزفا من حالات دامية في عالمنا العربي. 
وتتجلى الدلالة ما بين مفتتح الرواية ونهايتها في إيجابية الفعل، وأن خلاص الفرد بيده، فيمكنه أن يحقق ذاته، وينجز ما يريد من أحلامه، كما يمكنه أيضا أن يواجه تشوهات نفسه وانحرافاتها. وبذلك لم يقدم المؤلف الضمني رؤية مثالية على نحو ما نجد في سرديات الحرب والمقاومة، وإنما هي رؤية مفعمة بالحياة والأمل والشفافية. 
[email protected]