كاتبة إسبانية تفتش عن "أسرار حميمة" مع الكتب

تعلق بطلة رواية "أسرار حميمة" بالكتابة يجعلها لا تكتشف فقط أنها لا تحب هذه المهنة، بل تتخيل أن كل "أمناء المكتبات" أعداء للكتاب والكتابة.
مواقف واقعية مع مواقف متخيلة فيما يشبه التركيب السريالي
المكتبات العامة كالمقابر

يلقي الشاعر والمترجم د.طلعت شاهين في مقدمة ترجمته لرواية الكاتبة القطالونية (شمال شرق إسبانيا) التي تكتب باللغة الإسبانية نوريا أمات "أسرار حميمة"، الضوء على ما حققته الروائيات الإسبانيات من حضور قوي داخل المشهد الروائي الإسباني والأوروبي، مؤكدا أن المرأة الكاتبة في إسبانيا بدأت تلعب دورا مهما في الكتابة الأدبية خلال السنوات الأخيرة، وبرزت في مجال الرواية بشكل خاص كاتبات أصبحت أسماؤهن لا تقل شهرة عن أي كاتب من الكتاب الذين تتداولهم أقلام النقد، مثل ألمودينا جراندي، وآنا رودريجيث فيشر، وروسا مونتيرو، ونوريا أمات، أو الشاعرة الروائية كلارا خانيس التي كانت روايتها الأكثر شهرة "رجل عدن" تدور في مناخ عربي، وكتبتها خلال زيارة لها لليمن للمشاركة في مهرجان صنعاء الشعري، كما اعتدنا على أعمالها الشعرية البارزة وبشكل خاص ديوانها الشعري عن مجنون ليلي تحت اسم "حجر النار"، الذي من المنتظر صدور ترجمته العربية قريبا من المجمع الثقافي بأبوظبي.
وقال شاهين إنه من الروايات التي يمكن أن نطلق عليها "الرواية النسائية" التي صدرت في الفترة الأخيرة، وجذبت الأنظار إليها بسبب إحكام نسقها، كانت رواية "أسرار حميمة" للكاتبة القطالونية - شمال شرق إسبانيا- التي تكتب باللغة الإسبانية نوريا أمات، والتي صدرت عن واحدة من أهم دور النشر في إسبانيا وأميركا اللاتينية "الفاغوارا". 

novel
الروايات كانت لبن الرضاعة 

وأشار إلى أن الرواية التي صدرت ترجمتها عن دار العين شديدة الخصوصية في موضوعها وطريقة المعالجة الفنية، إنها قصة تحكيها لنا فتاة ولدت في أحد الأحياء الراقية بمدينة برشلونة، وتحديد موقع أحداث الرواية له أهميته هنا، نظرا إلى الصراع الدائر حاليا في ذلك الإقليم بين اللغة الإسبانية الرسمية واللغة القطالونية المحلية، التي انتشرت مؤخرا بقرار سياسي تسبب في الكثير من الجدل، تلك الفتاة تحاول أن تقص علينا ذكرياتها عبر الرواية منطلقة من علاقتها بالكتاب والكتابة، فهي على الرغم من انتمائها إلى عائلة من الطبقة البرجوازية، إلا أنها متمردة بما يحمل معنى التمرد في قطالونيا من معاني، ومنها التمرد على الانتماء المحلي جدا الذي بدأ ينتشر بين كتاب الإقليم، حتى أصبحت اللغة السائدة للكتابة هي اللغة المحلية.
وتابع شاهين أن هذه الفتاة "في الوقت نفسه متمردة على أبيها، المتمرد هو أيضا على أفكار طبقته ومجتمعه، والذي أورثها هذا التمرد من خلال حبه للكتب، ولكنه كان بين رغبتين، رغبته في تمرد ابنته، ورغبته في أن تكون الابنة كما تمنى لها هو أن تكون، لأنه كان يفضل أن تكون ابنته "أمينة مكتبة" مثل ابنة عمتها، بدلا من تصديع رأسه بما تكتبه سرا ومحاولاتها أن تكون كاتبة محترفة، وما يخلقه هذا الموقف من مشادات مع ابنته، التي يحاول من ناحية أن يثنيها عن السير في الطريق الذي اختارته، ومن ناحية أخرى خوفه من أن تفهم هذه المحاولات على أنها نوع من الضغوط النفسية التي يمارسها عليها الأب نظرا إلى أنها يتيمة الأم منذ الصغر وما يمكن أن يكون له من تأثير سلبي في العلاقة بينهما.
وأضاف أن الفتاة تبدأ حكايتها بتعلقها بالكتابة، ولكنها تنفيذا لرغبة الأب تحاول أن تقلد ابنة عمتها، وتقرر أن تبدأ عملها كأمينة مكتبة بالتدريب على ترتيب مكتبة الأسرة التي توجد في البيت، تبويبا وأرشفة، ثم تقبل العمل بعد ذلك في مكتبة الجامعة التي تعمل فيها ابنة عمتها التي كانت تعتبرها الأسرة مثالا على الفتاة الذكية.
وأشار شاهين إلى أن تعلق بطلة رواية "أسرار حميمة" بالكتابة يجعلها لا تكتشف فقط أنها لا تحب هذه المهنة، بل تتخيل أن كل "أمناء المكتبات" أعداء للكتاب والكتابة، وتحاول أن تقنع نفسها بهذه الفكرة من خلال مراقبة زملائها وزميلاتها في العمل، وكيفية معاملتهم للكتاب، والقلق الذي كان يصيبهم عندما كانوا يلتقون بكاتب أو بشخص يدعي أنه يعمل في مجال الكتابة، ويصل بها الأمر أن تقرر إعلان هوايتها لكتابة الأدب لتحصل بالمقابل على عدائهم لها، وتبرر تركها لهذا المكان الذي ملأته الكتب التي تعشقها، ولكن العاملين فيه يبثون في نفسها كراهيته. 
تمردها الآخر الذي تبوح به بين الأسطر تعلقها بالأدب الأجنبي، وعشقها لكُتاب مثل تشارلز ديكنز وتشارلوت برونتي، بينما تشير من وقت إلى آخر إلى أكبر شعراء اللغة القطالونية جوزيب فويس، والذي كان مرشحا لنيل جائزة نوبل للآداب، على الرغم من أنها كانت تلتقي به بشكل شبه يومي، لأنه كان يمتلك محلا لتصنيع وبيع الحلوى بالقرب من البيت الذي كانت تسكنه، ومن عاداته السير ما بين بيته ومحل الحلوى على الأقدام وكأنها نزهة محببة إلى نفسه. يخضع الأب على مضض لرغبة ابنته في الكتابة، لكنه يحاول أن ينسى قرارها الاستمرار في الكتابة من خلال فقدان الوعي مع كؤوس النبيذ التي يحتسيها، مما يجعل بطلة الرواية تشعر بعقدة الذنب عندما يمرض الأب ويموت، وتقرر أن تتعامل مع الأمر على أنها السبب في نهايته التي وصل إليها.
ورأى شاهين أنه خلال رحلة بطلة "أسرار حميمة" مع الكتب والكتابة ورفضها الإفصاح عن أعمالها التي أبدعتها، تمزج مواقف واقعية مع مواقف متخيلة فيما يشبه التركيب السريالي، فتقيم علاقات مدهشة وغريبة وشاذة مع شخصيات غير واقعية، منها تخيلها لواقعة زواجها من "بدرو بارامو" بطل رواية الكاتب المكسيكي "خوان رولفو"، التي تحمل عنوانا لها اسم البطل، والتي تعتبر من أبرز الروايات التي أبدعها الكاتب المكسيكي، بل تعتبر روايته الوحيدة التي نال عنها الشهرة التي حظي بها، ولم يعد بعدها إلى كتابة الرواية مكتفيا بكتابة بعض القصص القصيرة، وربما كانت علاقتها المتخيلة ببطل الرواية نابعة من الدور الذي لعبه في رواية خوان رولفو والمناخ المأساوي المحيط به الذي تحاول إسقاطه على مأساتها الخاصة بعد موت الأب.
وأوضح أن البطلة سرعان ما تتخلى عن "زوجها المتخيل" بدرو بارامو، لتعيش قصة حب مع "كارلس ريبا" الجراح عاشق الكتب والشعر، وفي الوقت نفسه ابن الطبيب النفسي الذي يمتلك المستشفى النفسي "مستشفى المجاذيب" القريب من بيتها، والذي حاولت اقتحامه عدة مرات لتتعرف على ساكنيه، لأنه كان يشبه فندقا من الدرجة الأولى، ولم تكن تتخيل أن يكون سكانه من المرضى، بل هم من الأثرياء الذين قرروا قضاء سنواتهم الأخيرة في راحة واستجمام بعيدا عن ضجيج الحياة وضجرها. لكن علاقتها بالجراح الشاب لم تبدأ بشكل طبيعي، أو تبدأ وتتطور عبر علاقة طبيعية مثل تلك العلاقات الرومانسية الكلاسيكية التي تحدث في الواقع، أو تتناولها الروايات وكتب الشعر والحب، بل تجده فجأة إلى جوارها في الوقت الذي كانت تتخيل فيه حديثا مع زوجها المتخيل "بدرو بارامو"، ويفاجئها الطبيب الشاب بطلب مرافقتها لتناول فنجان من القهوة، في مكان غير موجود، وعندما يعثران على ذلك المكان المتخيل، أثناء حديثه عن الكتب وعشقه للقراءة، يطلب منها الزواج دون أن يقدم لها مبرر هذا الطلب، وتقبل هي من منطلق التعرف على أسرته والمستشفى الذي يملكه أبوه، وشيئا في نفسها يدفعها إلى تجربة حياة هؤلاء الأثرياء الذين يسكنون المستشفى، وكأنهم يسكنون فندقا من الدرجة الأولى.
ولفت شاهين إلى أنه في الرواية بطل مجهول يرافق البطلة كظلها، إنه "صوت" يحادثها وتحادثه، وكثيرا ما يدفع بها إلى الطريق الذي اختارته لنفسها عندما تقرر النزول عند رغبة الأب، أو محاولاتها تقليد ابنة عمتها، هذا الصوت ليس إلا "عقلها الباطن"، الذي يشبه الحارس الذي يدفعها باتجاه ما تحلم به، وليس بما هو ممكن في الحياة، والكاتبة تحاول من خلال استغلال وجود "الصوت" أن تكسر حدة "المونولوج" الذي يمكن للبطلة أن تقع فيه خلال حديثها عن ما تريد وما لا تريد، لذلك يكون حوارها مع "الصوت" عبر "ديالوج" يكسر هذه الحدة، ويعبر عن رأي الكاتبة في النهاية.

على الرغم من هذا فإن رواية "أسرار حميمة" تعتبر "منولوجا" رائعا عن الحياة والموت وتجاورهما أحيانا، وامتزاجهما في أحيان كثيرة. رواية عن عشق القراءة والكتابة، رواية فريدة في الأدب الإسباني الحديث، تكشف عن تخطي هذا الأدب الأزمة التي وجد فيها نفسه محاصرا خلال فترة انتشار الواقعية السحرية في الرواية الأميركية اللاتينية.
مقتطف من الرواية
ما هو القبر إن لم يكن كتابا ضخما معدا للفتح والانتهاك؟ الكتاب قبر آخر ينتظر سر الحياة بشوق.
في يوم ما رأيته بوضوح، كان كبيرا ومجلدا فبدا كشاهد جنائزي. أسعدني هذا الاكتشاف، وفجأة اكتشفتُ نظام الحياة، واكتشفتُ أنني طوال حياتي كنتُ ألتقي بكتاب طفولتي المستطيل الأبيض المسطح. لكني في ذلك الوقت لم أقل شيئا لزوجي، الذي كان إلى جواري، المؤكد أنه كان حزينا أمام فراغ الشاهد الجنائزي من الكتابة، إنها أشياء خاصة وشخصية يجب أن تبقى في السر حتى يمكن الاستمتاع بها بلذة ومعرفة أكبر، على الرغم من أنني قلت لنفسي:
ـ الكتاب، ذلك الشيء المستطيل المكتوب على غلافه بحروف مائلة، كأنه شاهد جنائزي لطفولتي، شاهد يتبع غلاف أمي المهمل.
اكتشفته قبل قليل، طفولتي كانت كتابا مهملا بحروفه المائلة الميتة. وحياتي كانت كتابا ومقبرةً وبضعة حروف مائلة مقدسة.
يؤكد الحكماء أن "المكتبات العامة كالمقابر".
لكني لم أستطع حتى تلك اللحظة أن أربطَ ما بين المكتبات الشخصية ومقابر طفولتي.
مكتبتي كانت مقبرتي، لا يستطيع أي شخص أو أي شئ أن يفصلني عن مكتبة طفولتي، تماما كما أنه لا يمكنني أن أبتعد أبداً عن المقابر التي تعلمتُ فيها منذ صغري أن أقرأ كتب طفولتي.
"الكتبٌ رمادٌ هامسٌ" كما يقول الشعراء.
عندما كنتُ طفلةً كان أبي يضعني أمام الشاهد، وأنا كنتُ أنتظرُ أن تقول أمي شيئا، حاولتُ سماعَ صوتها بأذني، كما لو كانت تسر لي بسر، كنت أصلي مع أبي في المقابر المخيفة بصوت مسموع معتقدة أنه بهذه الطريقة يمكنها أن تجيبني، كنت حينها أعتقدُ في إله يؤنس وحدة أمي، أو اعتقدت في أمي أكثر من اعتقادي في إله له وجود، أو كنت أعتقد في أمل أن أُصبح إلها لأعيد أمي إلى الحياة، لكن هذا لم يحدث أبدا، مما جعلني أستبدل الشاهد الجنائزي بالكتب، الكتب كانت تحادثني، كنت أعتقد أنني أسمع صوت أمي عبرها، كانت الكتب تحدثني عن صمت أمي المنسية.
الصوت، مثلا، لم يكن متفقا معي دائما في هذه الأحاديث المقتضبة وكان يؤكد صدق الأطباء، أولئك الذين شخَّصوا حالتي على أنه إلتهاب دماغي حاد أصابني في سنواتي الأولى كأم مهملة.
كان الصوت يقول:
ـ الكتب كذب، هل تعتقدين أنها تساعدك على الهرب من طفولتك كأم منسية، بينما هي في الحقيقة عقاب لك حتى لا تخرجي أبدا من المقابر.
الأطباء أنفسهم توصلوا إلى تشخيص تشبثي بالقراءة على أنه نوع من المرض، أي شئ يمكنني أن أكون إذا كنت ابنة لمكتبة منسية؟
ترعرعت حياتي في المقابر، واتخذت شكلها بين كل تلك الكتب المولودة في المقابر المتعددة، في الحقيقة، لم أخرج أبدا، من مكتبتي الخجولة، مقبرتي المنزلية.
بدأت بالتهام الروايات، الروايات كانت لبن الرضاعة أو وصفة طعام بأنيميا القراءة.