كان على المقاومة ألا تنتحر بأهل غزة
منذ أن تأسست حركة فتح عام 1965 اتخذ مسار النضال الوطني الفلسطيني منحى الكفاح المسلح الذي لا يتيح للعدو فرصة المواجهة المباشرة إلا فيما ندر. كان الهدف الاساس للعمليات التي كان ينفذها مقاتلو التنظيمات الفلسطينية يتوزع في اتجاهين. اتجاه يصيب العدو بشكل مباشر داخل الأرض المحتلة وخارجها واتجاه ثان يصب في مجرى تذكير المجتمع الدولي بالقضية الفلسطينية التي تنطوي على أرض مغتصبة وحق سليب.
في الاتجاهين نجح الفلسطينيون في تأكيد وجودهم بفاعلية كانت دائما محط اعجاب العالم بنصفيه، النصف المناصر لقضيتهم وحقهم في أرضهم والنصف الذي تورط تاريخيا في البحث عن حل للمسألة اليهودية على حساب شعب فلسطين. إلى جانب الكفاح المسلح حافظ الفلسطينيون على هويتهم بطرق مختلفة أثبتوا من خلالها تفوقهم الفكري على كل محاولات طمس هويتهم.
الأهم أن التنظيمات الفلسطينية حرصت دائما على عدم الزج بالدول العربية التي سمحت لها في أوقات مختلفة بإقامة معسكراتها على أراضيها وفتحت لها حدودها مع فلسطين في حرب مباشرة مع العدو. ولم يملك العدو أسبابا مقنعة لشن تلك الحرب في ظل قرارات دولية كان يفضل الإلتزام بها لضرورة داخلية لا علاقة له برغبته في تحسين العلاقات مع محيطه المعادي.
وبينما كان الفلسطينيون يديرون حربهم على عدوهم بطريقتهم الخاصة التي اتسمت بصفات المقاومة نشبت حربان بين العرب وإسرائيل وهما حربان نشبتا بين جيوش نظامية ولم يكن للفلسطينيين حضور فيها. وفي الحالين لم يقع أي تحول إيجابي على الجبهة الفلسطينية. لقد كان على الفلسطينيين أن يديروا حربهم الخاصة وهو ما أكد لهم أن قضيتهم وإن اتخذت طابعا قوميا ستظل رهينة بخيارات نضالهم في المقاومة التي تعبر عن وجودها عن طريق القتال والفكر.
أخطأت التنظيمات الفلسطينية المسلحة مرتين حين استقوت بسلاحها وكثرة مقاتليها ونجاحاتها على الدول التي استضافتها. مرة في الأردن عام 1970 فكان أيلول الأسود الذي كان من نتائجه ترحيلها إلى لبنان بموجب اتفاق القاهرة ومرة أخرى في لبنان عام 1975 فكانت الحرب الأهلية التي خرج الفلسطينيون في منتصفها من لبنان بعد أن احتل الإسرائيليون بيروت. يومها بدأ شتات فلسطيني جديد أعاد الفلسطينيون من خلاله النظر في منطلقاتهم النظرية فكان إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 في الجزائر الذي تبعته إتفاقية أوسلو التي وقعها الفلسطينيون والإسرائيليون في واشنطن عام 1993.
أخطأت منظمة التحرير الفلسطينية كثيرا. وهو ما لا يمكن إنكاره أو استنكاره في ظل تقلبات المزاجين العربي والعالمي. مرة حين شعرت باليأس على الرغم من أن سجلها النضالي سيكون دائما مصدر فخر لدعاة الحرية في العالم ومرات حين اعتقدت أن العالم العربي سيظل عاجزا دائما عن الوصول إلى حل مشرف وعادل لقضيتها التي هي قضيته في الوقت نفسه. عن طريق إتفاقية أوسلو فلتت الكثير من خيوط القضية من أيدي العرب. ذلك ما كانت تعرفه إسرائيل وما تعرفه الولايات المتحدة التي أشرفت على الإتفاقية.
في كل تحولاتها حافظت منظمة التحرير على سلامة الشعب الفلسطيني ولم تلق به في نار حرب، هو ليس على استعداد على دفع ثمنها بعد أن دفع ثمن الحروب العربية تشردا لا تزال مخيماته في الأردن ولبنان وسوريا تشهد عليه. أما حركة حماس وهي ليست حركة تحرر وطني، بل هي مقاومة إسلامية فقد أتاحت لإسرائيل بجيشها النظامي أن تشن حروبا بطريقة قتالية ممنهجة، بحيث حققت حلمها في قتل أكثر عدد ممكن من الفلسطينيين في ظل صمت عالمي، هو في حقيقته واحدة من نتائج خروج حركة حماس عن شروط المقاومة الفلسطينية التي كانت تؤكد على عدم الإضرار بالشعب ومصالحه.
لقد عرضت حركة حماس الشعب الفلسطيني في غزة للإبادة. وهو ما لم تفعله حركة التحرير الفلسطيني من قبل. لقد استفزت إسرائيل دولة ودفعتها إلى الجنون بحيث لجأت إلى استعمال جيشها النظامي كما لو أنها في حرب مع دولة أخرى. وهو ما يعني أن شعب غزة الأعزل صار في مواجهة جيش نظامي وهي معادلة صنعتها حماس بسبب تخليها عن شروط المقاومة الأخلاقية.
إن عودة إلى تاريخ المقاومة الفلسطينية تكشف عن حرصها على تجنيب المدنيين خطر الوقوع في المصيدة. أما أن تشيد حماس أنفاقها تحت الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس وسواها من المنشآت المدنية في ظل افتضاح خرائطها فإن ذلك معناه الانتحار بأهل غزة.