قيام دولة فلسطينية هو ما يوقف القتل

لم تنه حرب غزة حركة حماس، بل أنهت معها السلطة الفلسطينية أيضا. لم يعد الحديث عن حل الدولتين إلا نوعا من الكلام الافتراضي.

قبل غزة وبعدها، كانت إسرائيل ولا تزال تعتقل مَن تشاء وتقتل مَن تشاء من الفلسطينيين في مدن الضفة الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية التي تم إفراغها منذ سنوات طويلة من محتواها السياسي بتواطؤ أطراف عالمية وإقليمية، شجع صمتها على أن تكون الحلول الأمنية التي تتّبعها إسرائيل إجراء ممهدا لمخطط الاستيطان الذي يضرب عرض الحائط كل الاتفاقات الدولية التي كان الفلسطينيون طرفا فيها بما فتح الباب أمام قيام دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة.

ذلك كله صار من الماضي، لا بسبب ما جرى في غزة عام 2023 بل سبقه بسنوات طويلة. فعبر سنوات المفاوضات لم تكن إسرائيل جادة في فك ارتباط الضفة والقطاع بها، ولم تسع إلى ذلك من أجل أن تنهي الصراع على أساس قانوني. وكما يبدو فإن اتفاق أوسلو الذي انتهى مفعوله لم يكن بالقوة التي تؤهله لتقييد إسرائيل في مشاريعها التوسعية على حساب الدولة الفلسطينية المؤجلة. أثناء ذلك ظل الفلسطينيون يُقتلون في كل مكان تصل إليه يد إسرائيل.

ما حدث في غزة لم يكن خيارا فلسطينيا خالصا. لقد لعبت إسرائيل الدور المحرض على أن تصل الأوضاع إلى الانفجار الذي مثله طوفان الأقصى من خلال عزل غزة وحصارها وتهميش السلطة الفلسطينية وإفشالها بل والدفع بها إلى الموقع الذي تكون فيه معزولة فلسطينيا وعربيا. لقد تحولت السلطة إلى غطاء يتم من خلاله تمرير الغزوات الإسرائيلية التي يتم من خلالها قتل المزيد من شباب الضفة.

أما غزة فإن كل التمويل الذي قامت إسرائيل بإيصاله كان يذهب بمعرفتها إلى حركة حماس التي توزعه بين استثمارات قياداتها وبناء الأنفاق. أما الشعب الذي تعقد باسمه الصفقات فقد كان يعاني الفقر والحرمان والعزل ويمتحن إرادته في بئر مظلمة تُعجن فيها الكراهية بالدموع وما من ضوء في نهاية النفق. كانت تلك هي الفرصة الذهبية التي وجدت فيها إيران مناسبتها لكي تخطف القضية من أبنائها لتنفذ أكبر عملية لها في المنطقة. سيُقال إن حساباتها كانت خاطئة وهو قول صحيح غير أن شعب غزة كان هو الخاسر الأكبر.

لم تنه حرب غزة حركة حماس، بل أنهت معها السلطة الفلسطينية أيضا. لم يعد الحديث عن حل الدولتين إلا نوعا من الكلام الافتراضي. ليست إسرائيل معنية به وهي كانت كذلك دائما، كما أن الغرب بكل دوله التي فتحت مخازن أسلحتها للانتقام من غزة وأهلها لا يطرح حين يعيد النظر في مسألة ضرورة قيام دولة فلسطينية في مواجهة حرب الإبادة مبادرة حقيقية تقوم على أساس واقعي. ستُرفع الأعلام الفلسطينية وتُفتح سفارات ولكن فلسطين نفسها ستظل غائبة. ذلك لأنها ليست مجرد فكرة. فلسطين ناس وأرض. ناس يجب ألاّ يُقتلوا وأرض يجب ألاّ تُغتصب من أجل توسيع حركة الاستيطان. والسلطة الفلسطينية التي سبق لها أن وقفت عاجزة أمام حركة حماس وهي تستقل بغزة كانت ولا تزال عاجزة عن منع إسرائيل من قتل مواطنيها على أرضها وهي عاجزة أيضا عن منع إسرائيل من بناء مستوطنات جديدة على الأرض التي هي جزء من الدولة الفلسطينية التي لا تزال على الورق. وإذا لم تعترف السلطة بعجزها فإن أحدا لن يبادر إلى مساعدتها.

فعلت إسرائيل بغزة وأهلها ما كانت تحلم به. هولوكوست جديد. إبادة ومحو وتهجير وتجويع وانتهاك. ولم يكن العالم مستعدا لسماع أصوات الضحايا. ظلت الحكاية التي صنعتها إيران بتمهيد إسرائيلي هي الحكاية الوحيدة المقبولة عالميا. ولم ينتبه أحد إلى أن إسرائيل كانت تمارس القتل في غزة في ظل عجز السلطة الفلسطينية عن إيصال صوتها إلى العالم. وكما يبدو فإنها فقدت صوتها أصلا. لم تكن الأفكار التي طرحها رئيس السلطة الفلسطينية مقنعة لأحد. ذلك لأنه لا يملك ما يؤهله لتنفيذها.

لقد كشفت حرب غزة السلطة الفلسطينية حين أظهرتها في أسوأ أحوالها. وبدا واضحا أن لا مستقبل لتلك السلطة إذا ما عزم العالم على تنفيذ إرادته في وضع حد لحرب الإبادة الإسرائيلية. فالدولة الفلسطينية المرجوة لن تقوم على أساس نموذج السلطة الذي هو نوع من التلفيق السياسي الذي لا يمكن أن يجد له صورة في مرآة الواقع. وكما أرى فإن وقف القتل لن يكون ممكنا إلا إذا أقر المجتمع الدولي بضرورة بناء دولة فلسطينية على الأرض لا في البيانات التي تهدف إلى رفع العتب.