كردستان ومثلث النيران

ألا تكفي مائة عام من الصراعات العبثية عبرة لحكام المنطقة وأنظمتها لتطلق سراح المكونات غير العربية والفارسية والتركية؟
اذهب إلى الخارطة وضع إصبعك في مركز التقاء بقايا ثلاث إمبراطوريات شرقية
درسٌ بليغ لتركيا وإيران وسوريا لاختزال الزمن والخسائر في صراعاتها مع الكرد
المثلث الملتهب يئن تحت سياط أنظمة تعيش أحلام يقظتها على عذابات الشعوب

خاطب أحد الدبلوماسيين الأميركيين الحاضرين في حفل توقيع اتفاقية سايكس بيكو 1916 الموقعين عليها قائلا لهم بأنكم (أي كل من ممثلي بريطانيا وفرنسا والداعمين لهما من الروس والإيطاليين)، إنما وقعتم على حروب ومأسي شعوب تلك المنطقة التي ضميتموها إلى كيانات بعيدة عن رغباتهم وطموحاتهم. كان يؤشر على المكونات غير العربية والفارسية والتركية خاصة الكرد الذين مزّقوا وطنهم الكبير وقسموه على أربع دول هي تركيا والعراق وسوريا وإيران، لكي تتأرجح كردستان القضية والوطن بين التاريخ والجغرافية في مثلث النيران بين بقايا ثلاث إمبراطوريات سبق وأن حكمت الكثير من شعوب العالم ودوله، وحينما شاخت وغابت عنها الشمس حتى اضمحلت، تحولت إلى دويلات تتقاتل من أجل إعادة أمجادها التي ذهبت أدراج الرياح، تاركةً مثلثاً لنيرانٍ مشتعلة حتى يومنا هذا، وقودها مكونات قومية ودينية ومذهبية، أكبرها أرضاً وشعباً الكرد الذين لم تبرد بندقيتهم من أجل رفض ذلك التقسيم والاحتواء، وتحقيق أهدافهم التي ألغتها تلك الاتفاقية سيئة الصيت، وتسببت في صراعات وحروب ما تزال مشتعلة في كل من سوريا وإيران وتركيا.

صدق ذلك الدبلوماسي الأميركي في تنبؤاته التي أكّدها بعد أكثر من 62 عاماً، مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، حيث كنت استمع لحوار صحفي له تحدث حينذاك عن أزمة الشرق الأوسط، مشيراً إلى مناطق مؤهلة للالتهاب الشديد غير مراكز السخونة المعروفة آنذاك بين العرب وإسرائيل أو بين تركيا واليونان أو حتى بين الهند وباكستان بعيداً إلى حدٍّ ما من الشرق الأوسط، وحينما طلب منه محاوره أن يحدد تلك المناطق قال له اذهب إلى الخارطة وضع إصبعك في مركز التقاء بقايا ثلاث إمبراطوريات شرقية حكمت مساحات واسعة من كوكبنا الأرضي وكان لها سيطرة وسطوة في حينها، وانا أستمع لذلك الحوار، سارعتُ إلى أطلس مدرسي كان على طرف المكتبة حينها، وسبقت الصحفي إلى حيث التقاء تلك الإمبراطوريات وبقاياها اليوم في مثلث يعرف الآن بالمثلث العراقي التركي الإيراني الساخن حد َّ الاتقاد.

انتهت حقبة الإمبراطوريات الكلاسيكية بسقوط إمبراطورية آل عثمان، لكي تبدأ حقبة أخرى من دول القبائل والعشائر وتحديداً بعد معاهدة سايكس بيكو ومن ثم لوزان التي أرست خارطة تلك الدول إلى يومنا هذا على أنقاض معاهدة سيفر وعلى حساب الكرد والأرمن والفلسطينيين وغيرهم ممن قامت على أشلائهم هذه الدول وبقايا إمبراطورياتها المريضة، وخلال أكثر من قرن من الزمان سالت بحور من الدماء في حروب الوجود والبقاء والصراع على الأرض والثروات، خاضتها أنظمة تلك الدول من بقايا الإمبراطوريات مع مكونات تلك الإمبراطوريات التي عملت على إذابتها في بوتقة الدول وقومياتها السائدة وإصرارها على إعادة الحياة لتلك المنظومة الإمبراطورية المتوفاة؟

وخلال عشرات السنين من الصراع المستميت وترليونات الدولارات من الأموال وملايين من الضحايا والمعاقين والعديد من الحروب من أجل الحصول على المفاتيح السرية للإمبراطوريات الحديثة، وهي خفايا وخبايا الأسلحة النووية التي تعتقد هذه البقايا إن امتلاكها سيعيد إليها ما فقدته وسيمنحها صفة العضوية في النادي النووي ومهمة "إخصاء" الآخرين من حولها، فلم تتقدم هذه الدول أنملة واحدة بالاتجاه الصحيح، بل على العكس تقهقرت إلى الوراء وهي تظنُّ إنها إنما حققت انتصارات وهمية باهرة كانتصارات قادسية صدام والأنفال وأم المعارك والحواسم، هنا في هذا الجزء من البقايا الإمبراطورية وما يقابلها من الطرف الآخر إلى الشرق في إيران التي انتهجت طرقاً دينية للوصول إلى النادي النووي على حساب تقهقر عشرات الملايين من البشر الذين ما زالوا ُيستخدَمون كفئران تجارب لدى هذه الأنظمة النووية جداً، وما يجري في آسيا الصغرى التي أصبحت تُسمى بعد تقزيم الإمبراطورية العثمانية بدولة تركيا الحالمة بعضوية النادي الأوروبي الذي سينقلها إلى مستوى أكثر تحضراً كما تعتقد، يدلل على فشل اتجاهاتها القمعية مع مكوناتها وأعراقها وبالذات ما يحصل بالقرب من المثلث الملتهب؟

خلاصة القول تساؤلٌ مرّ:  ألا تكفي مائة عام من الصراعات العبثية عبرة لحكامها وأنظمتها التي لم تنجح في إبادة أو إذابة المكونات الأصغر عدداً مثل الكرد أو احتوائهم في دويلات تمَّ تصنيعها لمصالح استعمارية ليس إلا؟ حقاً أنه سؤال يختزن آلام وويلات عاشتها شعوب هذه المنطقة بما فيها الغالبية، التي فقدت فرصاً ذهبية للانتقال إلى مستوى أكثر رقياً وازدهاراً، ولعلَّ في تجربة العراق وما حصل فيه من صراعات وحروب وما أنتجته من تشرذم وتقهقر في بلد يُعتبر من البلدان الغنية جداً في العالم، درسٌ بليغ لتركيا وإيران وسوريا لاختصار واختزال الزمن والخسائر والركون إلى حلول حضارية وسلمية لصراعاتها مع الكرد، لأن الإصرار على الخيار الآخر لن تجني منه إلا مزيد من التقهقر والتخلف والدمار وضياع فرصة ذهبية وتاريخية لتطور شعوبها التي تأن من الفقر والعوز والخوف في ظل أنظمة رثّة تسخر إمكانيات دولها لإبقائها في دفة السلطة على حساب السكان الغالبية منهم والأقلية، حقاً أنه المثلث الملتهب كما قال المستشار الأميركي زبيغنيو بريجنسكي، يئن تحت سياط أنظمة تعيش أحلام يقظتها على عذابات الشعوب وحقوق الإنسان في العيش بحرية واستقلال وسلام بعد أن فشلت وهي في أوج عظمتها من أن تحافظ على بقائها وديمومتها، فهل سيكون هذا المثلث مفتاح هِدايتها وإعادة ترتيب الأوضاع بما يجعلها تتحرر من عقلية التسلط والاحتواء، ام ستتبع عقلية موظفين من الدرجة الثالثة في الهيئات الدبلوماسية في كل من بريطانيا وفرنسا اللتين وقعتا تلك الاتفاقية على خلفية استعمارية محضة.