كركوك ونفط كردستان

كردستان قوية ومزدهرة وآمنة ستكون سنداً قوياً لعراق اتحادي.

لطالما كانت كركوك وبقية المدن الكردستانية التي تعرضت لتغييرات ديموغرافية لسلخها من كردستان سبباً رئيسياً لفشل معظم المحاولات لحل القضية الكردية في العراق، حيث دأبت كلُّ الأنظمة المتعاقبة على تكريس سلخ هذه المناطق بحجة أنها مرتكزات استراتيجية لقيام دولة كردستان، كما اعترف بذلك الرئيس الأسبق صدام حسين، الّذي أكّد في لقائه مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني، بأنه يقرُّ بأن كركوك مدينة كردية لكنه يدرك أيضاً أنها قاعدة اقتصادية لقيام الدولة التي لا يريدها، وبالتأكيد كذا الحال لبقية المدن بحجة أنها إما سلة غذاء وبوابة كردستان العراق على كردستان سوريا أو إيران. وبين هذه المبررات والحجج دفع الأهالي فيها ثمناً باهظاً كضحايا لسياسة التعريب والتهجير واستقدام مواطنين من جنوب ووسط العراق وإسكانهم بدل السكان الأصليين. وبعودة سريعة إلى الوراء وتحديداً إلى مسألة النفط في كركوك تعطينا إضاءة لحقيقة ما حدث ويحدث منذ اكتشافه فيها وحتى اجتياحها من قبل قوّات الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي في أكتوبر 2017 بعد هزيمتها أمام تنظيم "داعش" في 2014 وصمود قوّات البيشمركة ومنع سقوط المدينة بيد تنظيم الدولة الإرهابي كما حصل في الموصل وتكريت والأنبار.

في البدء، استخدم البريطانيون سياسة التغيير الديموغرافي في هذه المدينة بعد اكتشافهم للنفط، حيث منعت شركاتهم تشغيل العمال والموظفين الكرد واستقدمت أيدي عاملة رخيصة من خارج المدينة ومن أطرافها، ثمَّ ما لبثت أن وطنتهم قرّب مقراتها أو في مركز المدينة، ويبدو أنهم (أي البريطانيين) لم ينسوا ثورة محمود الحفيد ودعوته لاستقلال كردستان فوضعوا أيديهم على مربط الفرس كما يقولون. وبعيداً عن الخوض في دهاليز التاريخ المؤلمة، خاصةً وإن أجهزة الدعاية الموجّهة في بغداد أو من خارجه تشنُّ هذه الأيّام عبر أبواقها هجمة دعائية لتأجيج وتأزيم العلاقات بين بغداد وأربيل، اللتين نجحتا في رسم خارطة طريق لحل تلك العقد المتعلقة بالنفط ومعاشات الموظفين، ولكي تتضح صورة واحدة من صور التضليل الدعائي، نستذكر رقمياً في حسبة عرب كما يقول الدارج المحلي ما أورده الدكتور كاظم حبيب الخبير الاقتصادي المعروف في دراسة له عن واردات نفط كركوك والعراق عموماً:

"لقد أنتجت كردستان نفطاً بما قيمته 184.9 مليار دولار أمريكي من تاريخ إنتاجه 1927- 1934 ولغاية عام 2000 من إجمالي إيرادات العراق البالغة لنفس الفترة 252.5 مليار دولار أي بنسبة قدرها 72.2 بالمائة من إيرادات العراق بأكمله، بينما كانت حقول البصرة تساهم بالباقي 26,75% فقط خلال الفترة بين 1927 و1989".

وبدلاً من أن تُنفَق تلك المبالغ الطائلة على تطوير البنى التحتية لتلك المنطقة وإقناع بل وإغراء أهاليها بأفضلية البقاء مع الدولة العراقية، استخدموا تلك الأموال من نفط كردستان المنهوب في حرق كردستان وشعبها طيلة ما يقرب من سبعين عاماً، وقاموا بعمليات همجية في تهجير سكانها واستبدالهم بأُناس استقدموهم من وسط وجنوب العراق لتعريب المدينة بعد تقطيع أوصالها، وتعرض هذا البلد إلى التدمير الشامل في بنيته التحتية البشرية والاقتصادية والحضارية والصناعية، كما إن واردات نفطه كانت وسيلة في  تدمير العراق وحرق وأنفلة كردستان وتشويه مدنها، كما حصل في كركوك والموصل وسنجار وزمار وخانقين ومخمور ومندلي بعد عام 1975، وزرع ما لا يقل عن عشرة ملايين لغم في أرض كردستان لوحدها. وللأسف ومنذ 2003 ومع ارتفاع كبير في أسعار النفط لكن إيراداته سُرِقت من قبل الحاكمين في بغداد. والطامة الكبرى أن الكثير ممن أتوا بعد سقوط النظام، لا يختلفون كثيراً عن سلوك وممارسة نظام البعث رغم أنهم يدعون بتقاطعهم مع ثقافة النظام السابق وجرائمه ضد كردستان وشعبها، إلا أن مجمل سلوكهم وتصرفاتهم وموقفهم من موضوع كركوك والموصل وسنجار وزمار وخانقين ومخمور ومندلي، لا تختلف قيد أنملة مما سبق، بل أزعم أنهم لو كانوا يمتلكون قدرة ووسائل ذلك النظام لما امتنعوا عن القيام بما فعله في الأنفال وغيرها. أنهم وبعد سنوات قليلة كشفوا عن لثامهم بعد فشلهم في قيادة العراق، فاستخدموا شماعة كردستان لتعليق أسباب فشلهم في موضوعة النفط في الإقليم وتعاليهم على مآسي ثمانين عاماً من السرقة والسحت الحرام وبحور من الدماء، التي سالت نتيجة لتلك العقلية المتخلفة والشوفينية المقيتة وفرص التقدم والازدهار التي اغتيلت على أيديهم، بل ويتناسون ما جرى بعد مؤامرة 1975 ضد شعب كردستان الأعزل لكل من ساهم فيها أو سهل تنفيذها، ولعلّني أستذكر فقط أن ما حدث لإيران والعراق والجزائر والاتحاد السوفييتي بعد هذه السنة لم يكن (ربما) محض صدفة، أن تغرق إيران والعراق والجزائر في بحور من الدماء وتتفتت الإمبراطورية السوفييتية إلى دويلات عاجزة ينخر فيها الفقر والذل.

لقد ولى زمن التفرد والهيمنة فالكردستانيون فهموا تاريخهم جيداً وعرفوا أعدائهم وأصدقائهم، وهم يبنون بلدهم كما يشهد الأعداء قبل الأصدقاء بأنهم  بُناة بارعون ومخلصون كما كانوا مقاتلين أشداء،وأدركوا جيداً هم وأصدقائهم وشركائهم المخلصين في الوطن أن الحياة الجديدة لم تعد تتحمل شوفينيات مولودة من أرحام متعفنة غادرها الزمن، وأن مجرد إطلاق تصريحات تتهم الكرد وتشهر بهم ما هي إلا بقايا تلك الثقافة الأنفالية التي تعتمد رائحة الخردل وغاز الأعصاب في مفاهيمها، وهي تمثل تلك المدرسة التي شهدنا نهاية رموزها في المحكمة الجنائية العراقية الكبرى، حينما أسدلت الستار على فصل من فصول التاريخ الأسود للبلاد، والذي يحن البعض أو يحاول إعادة تصنيعه ثانية!؟

إنَّ فرصة ذهبية أمامنا في إنجاز عراق جديد نتعايش فيه جميعاً، يضمن حقوقنا السياسية والاقتصادية والثقافية والديمقراطية، ويعوضنا عمّا فاتنا طيلة ثمانين عاماً بعيداً عن الثقافة الشوفينية أو المذهبية الضيقة أو العنصرية المقيتة، والتعامل مع ثوابت الدستور بما ينميها ويطورها في التطبيق والسلوك، والتوجّه إلى كردستان بما ينميها ويعوض خسارتها لِما يقرب من مائة عاماً من ثروتها المسروقة وفرصها في التطور والتقدم، خصوصاً مع تجربتها خلال السنوات الماضية التي تمتعت فيها بقسط من الأمان والسلام، حيث أنجزت تطوراً كبيراً وملحوظاً في كلّ مناحي الحياة وبإمكانيات بسيطة قياساً لحصتها الطبيعية في الثروة الاتحادية.

إنّ كردستان قوية ًومزدهرةً وآمنةً ستكون سنداً قوياً لعراق اتحادي، وأن أي تطور في أي جزءٍ من العراق الاتحادي هو تطور وقوّة لكل هذا الاتحاد.