كليوباترا لشوقي: أي امرأة أنا؟

'صورتني امرأةً فاجرة في فترة من حياتي، وامرأة متعففة في فترة أخرى، تضحي بجسدها في سبيل المحب حينا، وفي سبيل الوطن حينا آخر، أنثى يصعب عليها الوفاء وتضيع قيصر البرية'.

صورتني امرأةً فاجرة في فترة من حياتي، وامرأة متعففة في فترة أخرى، تضحي بجسدها في سبيل المحب حينا، وفي سبيل الوطن حينا آخر، أنثى يصعب عليها الوفاء وتضيع قيصر البرية، فتقول:

ضَيَّعَتْ قَيصَرَ البَرِيَّةِ أُنثى **  يا لَرَبّي مِمّا تَجُرُّ النِساءُ

وقلتَ إن الفساد تناهى في الأرض أثناء حكمي، بل جاز الأبالس، فماذا عن الفساد في عصركم الآن؟ سمعت من يقول "إن الفساد للركب".

ولكن من ناحية أخرى قلت إنني أدبر وأسوس وأضحي بحب أنطونيو، وأموت في سبيل ذلك من أجل مصر.

فأي امرأة أنا يا شوقي بك؟

تقول إنك رأيت فيلما سينمائيا عن ملكة فرنسية صورها الفيلم امرأة داعرةـ فأُسيء لهذه الملكة، وقلت: ماذا في عرض الفضائح على الناس من جدوى، وكم في التاريخ من أغلاط وأكاذيب! وهنا برزتُ في ذهنك، وقلتَ عني في نفسك: لا يبعد أن تكون هذه الملكة قد جنى عليها المؤرخون من ذوي الأغراض، لأنه لا يمكن أن تكون كليوباترا على هذه الحال الزرية التي نراها في كتب المؤرخين.

وقد شكرتُك على هذا الرأي وهذه الرؤية لي وللتاريخ.

لقد رأيتَ يا شوقي أن أول من كتب تاريخي هو بلوتارك، وهو من صنائع الرومان، فأمعن في الحطِّ من شأني، فأردتَ أنتَ أن تبرزَ ما في حياتي العظيمة من عبر ومثل؛ كالتضحية بالذات في سبيل الكرامة.

وكتبتَ عني قائلا: قدمتها إنسانة فتانة لها ما للفاتنات من غي ورشاد، وكملكة عظيمة لأمة عظيمة لها ما للعظماء من طماعية وطموح وكبرياء وجلال يأبى عليها أن تسلم تاج مصر لأعدائها وتفضل الموت على حياة الذل والهوان.

وسألك البعض: هل من حقك أن تخط التاريخ كما يجب أن يكون أو كما تريد أن يكون؟

وقالوا: هذه كليوباترا تختار أن تضحي بحبها لا أن تحارب، تختار أن تنتحر لا أن تعيش وتجاهد.

وقال علي الراعي عن مسرحيتك "مصرع كليوباترا":

"اختار شوقي، ما بعد موقعة أكتيوم، زمانا لمسرحيته "مصرع كليوباترا"، وفرض على نفسه أن يدافع عن ملكة مصر كليوباترا، ضد تقولات أعدائها من الرومان ومؤرخيهم، وحاول جاهدا أن ينفي عنها أنها "أنثى أفنت العمر بالهوى" وأن يوكل إليها مهمة وطنية كبرى هي "الذود عن مصر" الذي تراه تبعتها الأولى، وتبعتها هي وحدها:

دع الذود عن مصر لي أنني ** أنا السيف والآخرون العصا

ثم حاول شوقي أن يدير صراعا بين هذا الواجب، وبين حب كليوباترا لأنطونيو، وأن يقيم صراعا مماثلا بين ولاء أنطونيو لروما وولائه لملكته.

وتنتهي المسرحية، وقد نصرت كليوباترا الواجب على الحب، أما أنطونيو فهو  أقرب ما يكون إلى أنتوني في مسرحية درايدن "كل ما نملك في سبيل الحب": اشتعال غرام ووهن عزيمة، لذلك فهو يموت فعلا في معبد غرامه، صادقا لدعواه في مناجاة كليوباترا:

ضحيت بالدنيا وقلت رخيصة ** وبذلت أيامي وقلت فداك"

وعلى الرغم من ذلك قالوا عني: كليوباترا ليست الملكة العظيمة والأنثى الخالدة التي يصورها التاريخ والأدب، وإنما هي عاشقة مفتونة، بل مراهقة، كل همها أن يبقى إلى جوارها رجلها الذي اختارت، ولتذهب الدنيا وما حوت إلى الجحيم.

كتبتَ مسرحيتك يا شوقي عام 1927، وتناولتَ جزءًا من سيرتي وصورتَ فيه أحداثا عاطفية وسياسية، فقد شعرتَ أن سيرتي درامية، وأن حياتي امتزجت بخيوط ثلاثة: يوليوس قيصر، وانطونيوس، واكتافيوس. ولكن يبدو أنك تأثرت في مسرحيتك تلك بمسرحية شكسبير "انطوني وكليوباترا" وهي إحدى التراجيديات التاريخية التي اعتمد فيها شكسبير على قصة انطونيو كما رواها مؤرخ الرومان بلوتارك الذي كان يصفني بـ "حية النيل العجوز"، وأظهرني في مظهر امرأة خطّالة متهمة في عفتها، من حيث هي امرأة، ومتهمة في جلالها وإخلاصها لبلادها من حيث هي ملكة.

لكنك إزاء هذا الاضطهاد الصارخ، حاولت أن تدافع عني، وذكرت أنني لم أحاول أن استميل أوكتافيوس كما قال عني شكسبير، بل صورتني على أنني امرأة مشتغلة بالسياسة مع قليل من الحب، وكنت ألعب لعبة التوازن بين خصمين قويين مع ميل عاطفي لأحد هذين الخصمين. وكانت رغبتي الأولى هي الاحتفاظ بسيادة مصر إزاء سلطان روما العارم. وكتبت تقول على لساني:

كنتُ في مركبي وبين جنودي ** أزنُ الحربَ والأمورَ بفكري

فتأملت حالتي مليا ** وتدبرت أمر صحوي وسكري

وتبيتُ أن روما إذا زا ** لتْ عن البحرِ لم يعد فيه غيري

موقفٌ يعجب العلا، كنتُ فيه ** بنتَ مصرٍ، وكنتُ مَلْكة مصرِ

وما زلت أتساءل: أي امرأة أنا؟