كمال هجار يحرر الزمن ليلتقط أوراقه

في لحظة انطلاق التشكيلي العراقي في الرسم تبدأ رغبة عاتية في الخروج من بين أصابعه وهي تنشد إنجاز ما يطمح إليه بهواجسه كلها، فالرغبة في المغايرة هي ذاتها التي ستكشف له عن لبابه وصلته بالحياة وصلة الحياة به.

تعرفت عليه في السليمانية بكردستان العراق، أثناء مشاركتنا لنشاطات سيمبوزيوم السليمانية الثالث (2-9-9-2021)، وحضوره الجميل وإصراره على مواكبته لنا، وتعضدت هذه المعرفة حين جمعتنا معاً جبال كردستان والرحلة الإستطلاعية الجميلة التي قمناها معاً، والتي لا تنسى برفقة المشاركين في السيمبوزيوم، ودلشاد كويستاني الفنان الذي يستل الفرح من داخلك مهما كانت معتمة، وعباس جاور الناقد العراقي المعروف، مع آخرين لم تعد تسعفني ذاكرتي بأسمائهم، لكن ما أعرفه بأن الواقع كان أشبه بحلم، كما الحلم كان حتى بات واقعاً، ما أعرفه بأن الجميع سيوثق تلك الخطوات الزمنية، وسيقوم بتسجيل معالمها بأسمائها التاريخية، وسيروي مفرداتها وما تجلى فيها من أجواء عذبة وبأنها كانت لحظات تحتفل بالحياة كما احتفلت الحياة بها، أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على قراءة أعمال الفنان كمال هجار ( 1958السليمانية )، والذي قصدته في بداية الحديث، الفنان الذي في رحابه تتقاطع مختلف الفنون والإبداع، ويقطف الألباب كعلامة على ما يتناوله في أبحاثه التي تساعده على بلورة آراء تساهم في تجديد نظرته إلى الفن ومهمته علّه بعطي بذلك دفعاً جديداً لهذه العجلة في هذه الحقبة المهمة من الزمن المعاصر، يأتيه النشاط بكل تلاوينه، ويستمد الضوء من الفضاء الذي فيه تنكشف الأسارير كلها وتعلن عن نفسها صريحة، فهو شجرة مثمرة جداً بثمار كان من المتاح له أن ينتجها بالقدر ذاته من إنتاجه للقيمة الجمالية لها مع إداء إبداعي في إبتناء حكايتها التي تقول أسرار الوجود، والتي تتشكل بنهوضها وثمارها وهي زاخرة بالحياة، تحمل طعمها في ذاتها وتحيل هذه الذات طواعية لا عنوة أو قهراً إلى فضاءات، وشحنها بدلالاتها المستمدة من ماهيتها ومن تلك المكونات البنائية التي لا يمكن لأي عنصر آخر أن يلغيها، فهو يتمتع بقدر عال من الحماس إن كان في إختياراته الدائمة لمشاهده المتخيلة، والمتدافعة، أو في علاقاته بالواقع والإلتصاق الصادق بها، وجميعها تسهم في إضفاء المزيد من الحيوية لتجربته المثيرة للقراءة والجدل.

كمال هجار بشكل أو بآخر يحرر الزمن ليلتقط أوراقه ويتناولها بحوارية مزدهرة تستجيب للرغبات النوعية لوعيه التي تتسع دوائرها كلما غار فيها أكثر، نعم يحرر الزمن تاركاً الريح يبعثر أوراقه، ويقترن هو بمفرداته جاهداً بلملمة تلك الأوراق وإعادة صياغتها من جديد، بالشكل الذي يراه، وهي التي ستشكل مادته الأهم في مشروعه الذي يشتغل عليه، مؤسساً لرؤية منفتحة على التاريخ وعلى العالم معاً، وحاملاً لموقف فاعل من/في الوجود، فهذا التزود المعرفي والثقافي لا بد أنها ترفع من سقف تزوده في الوعي والرؤى، فيمارس بهذا الوعي وبهذه الرؤى تأثيره في نقل مفهوم ملازم لخصوصيته ومحليتها إلى مناطق تتداخل فيها الملامح والسمات بحيث يفضي ذلك إلى خلق حركات غير مؤرقة هي تحولات جدلية فيها تذوب المجاورة، إن كانت بين الأضداد، أو بين المتصالحة منها، ومن باب ما يقدم عليه هجار من بحث دائم فهو يصطحب معه التوثيق للوصول إلى حقائق فرضتها ضرورات بحثه، ولهذا وذاك فهو شديد الحرص على أن ما يبذله من جهد أن يكون مكرساً لنتائج جد متميزة، فهو وفي زمنه المعلوم، وبلغة جديدة لا بهرجة فيها ولا إتكاء على السرد وحده يعيد إنتاج خطاباً فنياً لا تنداح معه الأسئلة، بل تساعدها على دفع الحركة فيها في إتجاه بحثه هو ويحيلها بدوره إلى إتجاهات أخرى، وإن بقي ثمة سؤال عالق في الإطار تبحث عن إجابات ممكنة في حالة كونها بقيت جزءاً من العمل قد يفضي به إلى مشهد يؤصل مشهده الفني المنشود.

كمال هجار يدرك بأن لكل جنس إبداعي شرطه التاريخي لولادته، والعمل الفني الذي يشتغل عليه ليس خارج هذا المفهوم، لهذا نراه لا يستصعب الغوص فيه علّه يصل إلى أقصى درجاته، وفي الوقت نفسه يُحْيي المسافة التاريخية فيه بوصفها مسافة تواصلية وتتابعية بها يجتهد تاريخياً ليجري ضمن هذا الفضاء من داخله دون إغفال العامل الذاتي الحواري الذي يعطيه فاعلية نامية بإتجاه ما يرسخه وما يميزه، ولكل ذلك فليس غريباً أن نرى أن أكثر أعماله يعود بها إلى التاريخ بشقيه المكاني والتشخيصي، حتى أنه في عام 2019 قدم معرضاً كان بانوراما فنية للتاريخ الكردي وعلى نحو أخص المآسي التي هطلت عليه من أنظمة إستبدادية والمجازر التي مورست بحقه والتي لا يمكن أن ينساها الإنسان الكردي كقلعة دزه، قلعة دمدم، قلعة هولير، حلبجة، أنفال .. إلخ، كما أنه يؤرخ جمالياً لشخصيات باتت معالم تاريخية للكورد لما كان لهم ولدورهم من رفض الظلم والنضال على إبعاده وعن حقه في العيش الكريم كمعظم شعوب المنطقة كشيخ سعيد بيران، مولانا خالد، سمكو خاني شيكاك، ليلى قاسم، هوزانفان ناري، شيخ عمر برزنجي، ملا مصطفى البرزاني، القاضي محمد، بابا طاهر همداني، شيخ محمود حفيد، مارغريت .. إلخ، وصحيح أن معانيه والدوافع التي تطفح بين ظاهر ألوانه لا ينفي حضور ما ذكرنا من شخوص وأمكنة بما يومىء بما لا يفنى، وبما يشي بتلك الكآبة التي تتجلى في مشاهده كلها وحيث النعيب يملؤها، وكأنه يقوم بتجاذبات بين الأقطاب مهما كانت متضادة، فهو لا يتدخل من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً حين يساور العادي ويعمد إلى عملية الغور موظفاً كل رموزه لإنتشال ما قد يذوب، يبحث عن نسق من وجع الإنسان وتشرده في براري الفناء، بل يبحث عن الدم والزمان المسالين على أرض قربت أن تكون خارج جاذبيتها، بل تسامت نحو السماء، نحو الخلود من كثرة ما عانت في مواجهة العدم ولا معنى الحياة، كرس كل ذلك لا من خلال رموز واقفة في العراء، بل من خلال إرتقاء التراب لتصبح دالة على الخلود وما يطالها من البلى.

في اللحظة التي يبدأ فيها كمال هجار بالرسم حتى تبدأ رغبة عاتية في الخروج من بين أصابعه وهي تنشد إنجاز ما يطمح إليه بهواجسه كلها، فالرغبة في المغايرة هي ذاتها التي ستكشف له عن لبابه وصلته بالحياة وصلة الحياة به، فيحاكي التاريخ بكل وجعه وينهض بهذا الوجع لا تكلفاً ولا تصنعاً ولا تحذلقاً به، بل هو يرى نفسه جزء من هذا الوجع، عاشه بكل جزيئاته وإبره، لا يبرح خياله الذي سيقوم على الدوام بإعادة إنتاجه، وهو على يقين تام بأن من لا يجهل ماضيه بكل هذا الزخم من الآااااااااهات لا يمكن أن يجعل مستقبله، فهو النافذ إلى جوهر الأشياء وصميم حقائقها، وهمه أن يجسدها في شكل ولون أو في ما هو إلى ظواهر الأشياء علها تكون عنواناً لدواخلها.