كورونا.. حقيقتنا كبشر!

كورونا جرحت كبرياءنا بتذكيرنا من نحن حقا.

قبل اكثر من ثلاثة عقود قرأت لكاتبة عربية لاي حضرني اسمها ان سبب وجود الحكومات والقوانين والانظمة هي كوننا كبشر مازلنا نعاني من الجهل وقاصرين عن تدبّر شؤوننا ونحتاج الى من يوجهنا وينظم حياتنا. وانقل هنا بالمعنى وليس بالنص. بصدق، سكنت هذه العبارة راسي. وحين قرأت عن الفوضوية فيما بعد، توقفت عند واقعة طريفة حصلت في اوربا القرن التاسع عشر، وتحديدا ايطاليا. الحكاية لها صلة ما بما جاء في ما قالته الكاتبة العربية، او انا رأيت ذلك. الفوضوية التي هي فلسفة سياسية ترى ان الانسان طالما ان له عقل فلا يحتاج الى من يوجهه، وانه يستطيع لوحده تدبر اموره ويعيش حياته، فردا وجماعة، من دون سلطة ودولة وقوانين! وهذه الفلسفة المثالية التي تقترب من التصوف العميق، جعلت احد الفوضويين المخلصين، وهو من العمال، لان يكون مثالا بين زملائه وبات له اتباع ومريدون يقتدون به ويقلدون سلوكه. لكنه فوجئ في احد الايام باستدعائه الى المحكمة، والتهمة هي ما جعلتني اتذكر هذه الواقعة الغريبة التي قرأتها في سياق قراءاتي المبكرة لتاريخ الاشتراكية وما رافق ظهورها من افكار وجدالات. لقد كانت تهمة الرجل انه عطّل عمل المحاكم! اي انه بنشره ثقافته الفوضوية او المثالية، انهى المشاكل ومن ثم توقف عمل القضاة والمحامين وغيرهم.

لا شك ان الفوضوية، فهمت خطأ فظلمت، وصارت تهمة لمن يتبناها. ولعل هذا الاتهام لم يأت من فراغ لسببين. الاول؛ ان غالبية الناس لم تعرف حمولتها الفكرية، كما حصل مع مفردة الاستعمار. والثاني؛ ان الغالبية من البشر لا تستطيع ان تتصور الحياة من دون دولة وسلطة وقوانين تضبطها، وان الفوضى دعوة صريحة للخراب واقتتال الناس فيما بينهم، ولكونها، حسب فهم البعض، تتنافى مع البناء التصاعدي للحضارة الانسانية. وهو ما جعل ماركس ينفر من الفوضويين الذين عاصروه، ويبتعد عن النقاش غير المجدي معهم! او هكذا قرأت ايضا في احد الكتب.

ما شهدناه مؤخرا في العالم بعد تفشي فايروس كورونا، هو ما اثار بداخلي هذه الذكريات. فالناس تبقى هي الناس في كل بلد، سواء أكان متحضرا او متخلفا. اي ان الفطرة البشرية تبقى هي المتحكم الاول في الانسان، والمتمثلة بميله الى الحرية البدائية وعدم الرغبة في فرض القيود مهما كان شكلها او لونها. ولعل هذا ما دعا الى سن القوانين لتنظيم عمل الناس ومعاملاتهم. وان بقيت هذه القوانين نسبية في مدى حدتها وتفاوتها بين مجتمع واخر، وفقا لدرجة تطوره، لكنها لم تلغ تلك الفطرة الماكثة في اعماقه، حتى قال اكثر من عالم اجتماع ان القانون، او بالاصح قوة فرض القانون، عندما تختفي في اي مجتمع، ولاي سبب كان، تظهر الوحوش الكامنة، وتسود شريعة الغاب اي يعود الانسان لبدائيته. وهو ما شهدناه في اكثر من بلد وكيف سادت الفوضى، حين اختفت الدولة وقوانينها، وكثرت اعمال السلب والنهب في بلدان متقدمة وغنية، مثلما حصل في بلدان متخلفة وفقيرة.

كورونا اكدت، وللاسف، صحة هذا الطرح الذي لا يخلو من اهانة لكبرياء الانسان، وجعلت الجميع يقفون على حقيقتهم. اقصد كشعوب وافراد ايضا، فمثلما اتخذت الدول المتخلفة اجراءات الحجر القسري على مواطنيها وباستعمال القوة التي استدعت انزال الجيوش لفرض هذا القرار المهين، كونه في دلالته عامل الناس بوصفهم قطيعا! اتخذت الاجراءات نفسها الدول المتقدمة، وفي كلا الحالتين كان هناك خرق وكانت هناك عقوبات بحق المخالفين.

لقد كان ماركس محقا حين جعل المشاعية العلمية على مرمى قرون من عصره، او بعد ان تستوفي البشرية اسباب عدم حاجتها للقوانين والانظمة والحكومات والدول. زمن لم يجد فيه ماركس احدا من الفوضويين محالا الى المحكمة، لانه استعجل ان يرى شكلا آخر للحياة والانسان معا.