كيف يُمكنُ لبروست أن يُغير حياتك

آلان دوبوتون يجمعُ بين أُسلوب الإستقصاء الصحفي والسرد الروائي والتوثيق التاريخي مع ما يستخلصُ إليه خلال تأمُله لآراء بروست.
الكتابُ يتضمنُ آراء الأُدباء المُعاصرين لبروست منهم أندريه جيد، وفرجينيا وولف
أسلوب آلان دوبوتون لا يختلفُ في هذا العمل عما يسلكهُ في كتاب "عزاءات الفلسفة"
الإيمان بالطب هو قمة الحماقة وعدم الإيمان به حماقة أكبر

إستلهام حياة مشاهير الفكر والأدب في الأعمال السردية أصبح مدار اهتمام الروائيين، إذ تمتزجُ أحداث مُتخيلة مع وقائع حياة مَنْ ظَلَ تأثيرهُ مُتجذراً على مسيرة الفكر البشري. هنا نُشيرُ إلى إرفين د.بالوم الذي يعالجُ  تاريخ أوروبا مُنطلقاً من سيرة فيلسوف الألمانى نيتشة في روايته المُعنونة "عندما بكى نيتشة".
غير أنَّ الكاتب السويسري المقيم ببريطانيا آلان دوبوتون يجمعُ بين أُسلوب الإستقصاء الصحفي والسرد الروائي والتوثيق التاريخي مع ما يستخلصُ إليه خلال تأمُله لآراء بروست ومُقتطفات لما تضمهُ روايتهُ من أفكار عميقة في مؤلفه "كيف يمكن لبروست أن يغيَّرَ حياتك" الصادر من دار التنوير ترجمة يزن الحاج.
لا يختلفُ أسلوب آلان دوبوتون في هذا العمل عما يسلكهُ في كتاب "عزاءات الفلسفة" إذ يحاول ربط مُعطيات فلسفية وأدبية بأُمور حياتية حيث يجوبُ المؤلفُ في حيثيات الظروف التي عاشها مارسيل بروست كإنسان وعلاقته مع الآخرين، ومنْ ثُمَّ يسْتديرُ إلى انشغالاته الأدبية بدءا من تجاربه الأولى في كتابة المسرح ومروراً بتأليف الجزء الأول من روايته، وصولاً إلى إنهاء عمله المُضني الذي يُعتبرُ علامة فارقة في الأدب الروائي عقب الحرب العالمية الأُولى. 
كما يتضمنُ الكتابُ آراء الأُدباء المُعاصرين لبروست منهم أندريه جيد، وفرجينيا وولف، كل هذا بجانب تصوير ما كان يعانيه بروست من مرض مزمن (الربو) حيث قَيدَ حريته وأرغمه على ملازمة السرير، وتحملَ عذاب نوباته الخانقة، كما حدد المرض طريقة ملبس بروست إذ كان يظهر في المُناسبات مرتدياً أكثر من معطف، فإن عجز الأطباء عن مُعالجة مرضه حدا ببروست إلى زعزعة ثقته بالطب. 

بروست يعتقد بأن تحويل وظيفة الكتب من التنبيهية إلى أن تكون بديلاً لنشاطنا الفكري نوع من العبودية الثقافية

يقولُ "الإيمان بالطب هو قمة الحماقة وعدم الإيمان به حماقة أكبر". بجانب ذلك يَشْرَحُ المؤلفُ العلاقة بين العباقرة والمعاناة، ويؤكدُ على قدرة بروست في إستيعاب محنته مع المرض. كما يُشيرُ في هذا السياق إلى سعي الفلاسفة وراء السعادة غير أن التجارب تكشفُ أنَّ تطوير مُقاربة فعالة للبؤس تَبز فعلياً قيمة أي مسعى يوتوبي وراء السعادة. 
يشرعُ الكاتبُ بالدخول إلى عالم بروست من خلال سؤال طرحتهُ "لانتر إنسيغان" وهي صحيفة مُتخصصة بالأخبار الإستقصائية على نخبة من مشاهير الفن والأدب في أوروبا حول ردود فعلهم إذا تلقوا خبراً بأنَّ نهاية العالم قد أزفت؟ طبعاً تتباين وجهات النظر حول هذا الموضوع، وكان بروست من الذين قد إستجوبتهم الصحيفة بشأن فرضية وقوع الكارثة إذ يرى بروست بأن بوجود خطر يهدد حياتنا ستزيدُ حياة روعة، ونصبح أكثر تعلقاً بها، كما تتبدى أبعادها الجمالية المُبهمة ونرجو إرجاء تحقيق هذه الفرضية إلى أن نُنجز بعض مشاريعنا مثل زيارة متحف اللوفر والبوح بحبنا العارم لآنيسة فلانة. 
من خلال إجابته تستشفُ رؤية بروست لعنصر الزمن الذي لا يرى فيه الإنسان خصماً إلا في لحظة اقتراب غيابه على مسرح الحياة. ومن ثُم يتنقلُ الآن دوبوتون إلى ما يمكن وصفه بعقدة مهنة الأب في حياة بروست، كان والده طبيباً ذائع الصيت في فرنسا بجانب ذلك قد ألّف كتباً عن إرشادات صحية ونال وسام جوقة الشرف برتبة فارس. فيرغبُ مارسيل بروست في عمل يضارع أهمية ما يقوم به والده يخاطب خادمته "آه يا سيليستى لو كان أن أتأكدُ من أننى سأفعل بكتبي ما كان يفعله والدي مع المرضى".
كأن بروست توقع بحدسه دور الرواية في مُعالجة المرضى في المستقبل حيث كثُرت التقاريرُ والدراسات مؤخراً عن جدوى الرواية بالنسبة للمرضى، لم يقبلْ مارسيل بروست فكرة إلتزام بوظيفة معينة مع أنَّه قد إختبر العمل الوظيفي في مجالات مختلفة غير أنَّه لم يستمر، ويقول: "في أشدَّ لحظات حياتى لم أكنْ أتخيل أمراً أشد فظاعة من مكتب المُحاماة". 
مقلب آخر من حياة بروست هو علاقته مع أمه، فهو كان يشعر بالعجز عن فعل أي شيء بدونها، إذ ينقلُ صاحبُ "عزاءات الفلسفة" كلام بروست عن محاولات الأم لتعليم ابنها على أن يعيش في غيابها. وعندما سُئل بروست عن معنى التعاسة فأجاب بـ "أنفصل عن أمي تماما". ومن ثُمَّ يذكرُ المؤلف قرار بروست لطبع روايته على نفقته بعدما يرفضُ أندريه جيد نشرها في دار غاليمار. 
قد بدا أسلوب بروست غير مألوف، كما أن إضافة الشروحات إلى عمله تزيد صعوبة قراءته، فهو أبدع لغة جديدة وتراكيب مختلفة في صياغة الجمل المطولة إذ لم يستسغ أومبلو كمدير لدار النشر عمل بروست كما جاك مادلين وهو قارىء بإحدى دور النشر الفرنسية كتب في تقريره عقب الإنتهاء من قراءة "البحث عن الزمن المفقود" ليس لدى المرء دليل ولو دليل واحد لفهم ما يدور هنا ما مغزى كل هذا؟ مامعناه؟ أين سيقود؟

يشيرُ صاحب الكتاب إلى أن أن جميع الناشرين الآخرين تشاطروا الآراء ذاتها، ولكن ما أن تمضي سنوات حتى يتأسف هؤلاء الأشخاص على إعتراضهم وموقفهم السلبي حيال رواية مارسيل بروست، فالأخير هو الوحيد الذي يستمتع بالندم والإعتذارات المتدفقة عليه. بجانب نبوغه في التأليف وتشخيص دوافع السلوك الإنساني، كان يروق له تحليل الأعمال الفنية إذ يبحث في الواقع عن ملامح مشابهة للوجوه التي يراها في اللوحات الفنية، إذ تهمه توعية المشاهد لما تختزنه تلك الأعمال من أبعاد جمالية وما تستجليه لمزايا الحياة البسيطة، وذلك لا ينفصل عن رؤيته لمفهوم الحرمان بحيث ما تتوصل إليه في قراءتك لطروحات بروست أن لذة الحرمان تفوق متعة الإمتلاك، وهذا ما يتجسد في تباين الحالة الإقتصادية بين الدوقة وألبرتين، فالأولى لا تتمتعُ بما تحصلُ عليه نظراً لغنائها، بينما الثانية تتلذذ برغبة الوصول إلى درسدن كما أن حبها وإهتمامها بالفساتين والقبعات أكبر. 
وهذا التصور يلقي بظلاله على تعامل مارسيل بروست مع المرأة، هو يفضل المرأة التي تلقي بالرجل إلى دوامة الشك، رغم ذكائه لإنشاء شبكة من الأصدقاء وتواصله مع الطبقة الأرستقراطية، لكن بروست لم يحبذ قضاء وقته في المناسبات الإجتماعية  ويرى بأن الوقت الذي نستقطعه من العمل من أجل ساعة للحديث مع شخص معين ليس إلا مبادلة للواقع بشىء غير موجود. رفض بروست النمطية في التفكير وإقتنع بقدرة الإنسان على إستقاء الأفكار العظيمة من خلال المتابعة لما هو يومي وما يُنشرُ على صفحات الجرائد لولا تقصي فلوبير لأخبار الصُحف وقراءته لخبر إنتحار زوجة شابة ما كتب مادام بوفاري، ما برح بروست مُتابعا لجريدة لوفيغارو ويقارن بين ما يقرأه من أخبار مأساوية بملاحم تارخية. 
وإتفق بروست مع الفيلسوف الألماني كانط حول ضرورة إستقلال العقل إذ كما يؤكدُ كانط على خطورة توكيل غيرك على أن يُفكر بدلا منك، كذلك بروست يعتقدُ بأن تحويل وظيفة الكتب من التنبيهية إلى أن تكون بديلاً لنشاطنا الفكري نوع من العبودية الثقافية. الأكثر تجد في هذا الكتاب صوراً أخرى لشخصية بروست ويُلمح دوبوتون لحالة الشذوذ لدى مارسيل بروست ويستندُ في ذلك إلى ما ذكره بروست بنفسه. ناهيك عن الإشارة إلى تأثير روايته الملحمية في الأوساط الثقافية والشعبية إذ صارت عقدة بالنسبة لفرجينيا وولف، فالأخيرة مقتنعة بأن بروست لم يترك شيئا ليكون ثيمة للأعمال الروائية بحيث تخاف من إكمال قراءتها. كما صدر كتابُ يضمُ وصفات كل الأطعمة المذكورة في "البحث عن الزمن المفقود" كما تحولت إليه كومبريه إلى معلم سياسي يقصده السياح لمعرفة المكان الذي أوحى لبروست بكتابة روايته إذ قضى مارسيل بروست سنوات طفولته في تلك المدينة، وعلى كنف عمة ليوني التي تقدمُ له كعكة ماديلين.
يرحلُ بك دوبوتون في عوالم مارسيل بروست الذي لم تهواه فكرة مغادرة بلده من خلال مؤلفه المقسم على تسعة أجزاء، لا يقدمُ لك صاحب "هندسة السعادة" عبارات جاهزة في قوالب وعظية بل مايتوخاه هو إمكانية رؤية الحياة من نافذة جديدة.