كي لا يذهب جهد الفقهاء في تأسيس الصحافة الجزائرية سدى

ونحن نحفل باليوم الوطني للصحافة نحتاج إلى تلك الوقفة الشجاعة والموقف الملتزم، إن نعيد النظر في تاريخنا ونتحمل من المسؤولية التاريخية تجاه منظومتنا الإعلامية.

إن تاريخ الصحافة في الجزائر يحتاج من النخب اليوم، وبصفة عاجلة، إلى القيام بعمليات مراجعة جادة وإعادة تقييم فاحصة، ويتوجب على المؤسسات المستأمنة على المنظومة المعرفية في البلاد (الجامعة) المسارعة إلى إنتاج القوالب والصيغ المعرفية التي تقدم من خلالها شكلا ومضمونا (معرفيين) للجهد الصحفي في الجزائر وبالذات ذلك الجهد "التأسيسي" المبذول من طرف الرواد الأوائل.

في العادة عندما تذكر أسماء مثل عمر بن قدور وابوبكر جابر الجزائري والشيخ طفيش وكحول بن دالي والطيب العقبي وابن باديس وغيرهم في خانة الفقهاء والعلماء من المشتغلين بالموضوع الديني والمقاومة الاجتماعية، إلا أنهم في الحقيقة كانوا من صناع الفعل الإعلامي ومن المؤسسين للممارسة الصحفية ومن المكرسين لقيمها الذاتية، منذ القرن الثامن عشر، متفطنين للأهمية التي يكتسيها المظهر الإعلامي الجديد.

إن الكثير من المنغصات التي يعاني منها المشهد الإعلامي اليوم ويبرم منها الكثيرون، مردها إلى غياب الهوية الإعلامية والمرجعية الصحفية التي أسسها الرواد الأول ووضع أسس ممارستها الثقافية والفكرية، فصاغوا منظومة إعلامية (شكلا ومضمونا وقيما) وفق خصائص الثقافة الوطنية والشخصية الجزائرية، مما جعلها نموذجا خاصا ومميزا للفعل الإعلامي في الجزائر، ليس بالمعني الذي قد يتعجب منه البعض متصورا وجود صحافة جزائرية مختلفة عن صحافة الناس، وإنما صحافة لها قيمها وأساليبها التي تميزها عن غيرها، وتجعلها تنسجم مع المعطيات الذاتية للمجتمع، ومندرجة في نسق الهوية الوطنية والشخصية الجماعية.

لقد تميزت الممارسة الإعلامية الجزائرية التي أسسها العلماء من الفقهاء والمتصوفة، بطابع المنافحة عن الحقيقة والذب عن الحق في المعرفة والإعلام، دون الوقوع في شراك الخرافات ومثالب الإشاعات وبراثن الافك، مستمدين ذلك من طبيعة المؤسسة التي ينتمون إليها، كون المؤسسة الدينية هي مؤسسة إعلامية بالدرجة الأولى، وتقوم هويتها على الفعل الإعلامي، وأنها محروسة بمجموعة من القيم والضوابط الصارمة (الالتزام بالصدق وتجنب الكذب والابتعاد عن التعجل والتحري بالتثبت وغيرها) التي تفقد هويتها بمجرد المساس بها.

لم يخترع علماء وفقهاء ومتصوفة الجزائر الصحافة، وإنما اكتشفوها باعتبارها من منتجات الحضارة الغربية، وسلاحا من الأسلحة التي احتل بها الغرب بلادهم  ولما وضعوها موضع الدراسة والاختبار والتدبر وجدوها مجرد وسيلة من وسائل السيطرة بالرغم من أن مضمونها إنساني معرفية نهضوي بالدرجة الأولى، فلم يضيعوا الوقت في الجدل حولها باعتبارها من منتوجات الغرب، وإنما أخذوها باعتبارها وسيلة والوسائل متاحة للبشر  يتناقلونها فيما بينهم فيزيدون عليها ويثرونها حسب ثقافة كل أمة وحضارة كل أمة، ومن هنا سارعوا إلى الانخراط في الممارسة الإعلامية ولكن حوروها واثروا مضمونها، بداية بضبط إيقاعها وفق هوية وثقافة الأمة وأعطوها من الخصائص ما يجعلها خادمة للإنسانية وملتزمة بالقيم العليا المتفق عليها بشريا.  

إن الحصيلة العامة للممارسة الإعلامية الجزائرية وبالذات في مراحل التأسيس تبين الحجم الكبير من الجهد الذي بذله الرواد المؤسسون، وتكشف المتابعة الدقيقة لفلسفتها عن تلك المعالم الكبرى التي وضعوها للأجيال القادمة، كونهم كانوا "إعلاميين" مثقفين ولم يكونوا "صحفيين موظفين"، وأنهم احترموا طبيعة المؤسسة التي أنتجت تلك النخب، وسخروا الصحافة باعتبارها وسيلة اتصال مستحدثة في عصرهم لخدمة الأقدس مما يتفق عليه الناس ألا وهي الحقيقة التي هي تاج كل الحضارات ومطمح كل الفلسفات وغاية كل الأفكار.

إننا نحتاج ونحن نحفل باليوم الوطني للصحافة إلى تلك الوقفة الشجاعة والموقف الملتزم، إن نعيد النظر في تاريخنا و نتحمل من المسؤولية التاريخية تجاه منظومتنا الإعلامية، ليس من منظور تمجيد هذا التاريخ ولا من زاوية تقديس رواده المؤسسون، ولكن وقفة مراجعة وموقف اعتبار، حتى نتجنب منغصات ما يعتبر عنه بعضنا نتيجة شوائب الممارسة الإعلامية أو ما ينزعج منه البعض بدون الافصاح عنه، كما هذا المطلوب اليوم وبالذات من النخب الإعلامية، أن تحدث التواصل الايجابي بين الاجيال والا تترك المجال لسيطرة "زمن التيه"، الذي بالضرورة تكاليفه باهظة ونتائجه غير محمودة.