لاهوت التّخلف: اللاّهوت الأشعري أنموذجاً

إنكار العلاقة بين السّبب والنّتيجة في النّظام الطبيعي وهذا ما أكّده الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة عندما قال بأنّ الله غير ملزم بأي نظام، وأنّه لهذا السّبب ليس هناك تسلسل طبيعي للسّبب والنّتيجة.

بقلم: محمد رحمون 

من الفرق الأولى الّتي ظهرت على مسرح الجدل الكلامي فرقة الجبريّة القائلة إنّ السّلطة الإلهيّة المطلقة تتطلّب التّحديد المطلق لأفعال الإنسان من قبل الله، فالله وحده من يملي كلّ حركة يقوم بها الإنسان، وكلّ قول غير هذا يحد من حريّة الله وسلطته المطلقة. ثمّ ظهرت فرقة القدريّة الّتي أيد زعماؤها حريّة الإنسان، وقالوا إنّ إرادته حرّة وأنّه مسؤول عن أفعاله، إذ دون هذه الفكرة سيبدو الحساب الأخروي بلا معنى.

الفرقة الّتي نركز نظرنا عليها في هذه المقالة فهي فرقة الأشاعرة، الّتي أسّسها أبو الحسن الأشعري(260هـ ــ 324هـ/874م ــ 936م)، وهو عربي من البصرة، كان تلميذا لأبي علي الجبائي المعتزلي، ثمّ تحوّل إلى موقف “أهل السّنة والجماعة” مدعما إيّاه بمناهج الكلام الّتي تعلّمها من المعتزلة. وحاول شرعنة الاشتغال بعلم الكلام من القرآن والسّنة، وقد جادل في الموضوعات المعروفة في علم الكلّام (برهان وجود الخالق، صفات الله وأفعاله، إمكانيّة النبوّة، استحالة كذب الله، الإرادة الإلهيّة، طبيعة كلّام الله…إلخ).

عندما الأشعري وصل أربعين عاما أعلن خروجه من الاعتزال قائلا: ”من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو الحسن الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن، وإن الله لا يرى بالدّار الآخرة بالأبصار وإن العباد يخلقون أفعالهم، وها أنا تائب من الاعتزال معتقدا الرّد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم”.

يمكن اختصار مبادئ اللاّهوت الأشعري ومقولاته في النّقاط الآتيّة:

  • إمكانيّة رؤيّة الله لأنّ النّبي محمد قد رآه وسيراه المؤمنون في الحياة الأخرى، ولئن لم يكن أحد قد رآه في الحياة الدنيا فلأنّه لا يخلق فينا هذه الرؤيّة.
  •  الإرادة والعلم أزليان وفريدان، ويستطيع الله أن يأمر بما يريد ألا يكون(تضحيّة إبراهيم مثالا)، كما يستطيع ألا يريد من البشر جميعا الأفعال الحسنة، وهو ما تدلل عليه الآيات القرآنيّة الّتي تتحدّث عن إرادة كان بوسع الله امتلاكها وتفعيلها لكنّه لم يفعل.
  •  أوجد الأشعري تخريجا تلفيقيا بين الاعتزال وأهل السّنة لقضيّة حريّة الإنسان، إذ يرى أنّ الله هو خالق كلّ شيء، وتوجد أفعال “جبريّة” من جانب، وأفعال تفترض فينا قوّة موافِقة من جانب آخر سماها “كسبا”. لكنّه يرفض القول بأنّ الفعل مشترك بين الإثنين.
  •  الله حرّ في اختياراته وقد يستطيع الإرغام على إتيان المستحيل، فكلّ ما يصدر عنه ويأتي منه عادل وحكيم لمجرّد أنّه يأتي منه، والوحي هو المحدد لقيمة الأفعال، وليس للعقل أي علاقة بها.
  •  الفعل لا يكون حسنا أو قبيحا بذاته، بل وفق الأمر به أو النّهي عنه فقط.
  •  يبقى المؤمن مؤمنا حتّى وإن ارتكب كبيرة، لأنّ الإيمان تصديق بالجَنان ولا تفسده الأعمال(موقف المرجئة)، ولا وجود لمنزلة بين المنزلتين كما قال المعتزلة.
  •  يتسم الله بصفتين: القدرة والإرادة (ويفعل الله ما يشاء ـ إبراهيم: 27) (فعال لما يريد ـ البروج: 16). وإذا كانت كلّ الأديان التّوحيديّة تؤمن بأنّ الله يجب أن يكون كلّي القدرة ليكون واحدا، فإنّ حجة الأشاعرة تختزله في قدرته الكلّيّة بالتّركيز حصرا على قدرته اللاّمحدودة مقابل سببه. فالإنسان لا يعرف أسباب الله، والله يقدر كيف يشاء، ويقول الله “كن” فيكون العالم، ويمكنه أن يقول “لا تكن” لينتهي العالم، دون سبب ل “كن” أو “لا تكن”، فكلمته كافية للخلق أو للعدم.

كانت النّتيجة المأساويّة لهذه الأفكار (العقيدة) إنكار العلاقة بين السّبب والنّتيجة في النّظام الطبيعي، وهذا ما أكّده الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة عندما قال بأنّ الله غير ملزم بأي نظام، وأنّه لهذا السّبب ليس هناك تسلسل طبيعي للسّبب والنّتيجة، بل هناك، فقط، تجاورات لحوادث غير متّصلة، تجعل النّار تظهر كأنّها تحرق القطن، لكنّ الله بمقدوره أن يفعل شيئا آخر. محاولا بذلك تفنيذ فكر الطبائعيين الماديين القائل بأنّ للأشياء في ذاتها أو بطبيعتها أثر سببي مستقل عن إرادة الله.

ملخص ما نُشر في صفحة الأوان