لا ينبغي لأي ممثل أن يظل على المسرح طوال المسرحية

شيشرون وضع أطروحته "عن الشيخوخة" على أمل أن تحل الفلسفة محل الدين فتهدي الطبقات العليا في المجتمع الروماني إلى الحياة الطيبة.
شيشرون لم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاما جديدا
الخطيب الروماني حول نثر الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة واضحة وجذابة، وجمّل بحوثه بالحوار

يتضمن هذا الكتاب "في مديح الشيخوخة" ترجمة لكتاب المفكر والخطيب الروماني الأشهر ماركوس توليوس شيشرون الذي صدر أخيرا عن جامعة برنستون بالولايات المتحدة وترجمه الكاتب فتحي أبو رفيعة وصدر عن دار بتّانة بالقاهرة. وكان شيشرون قد وضع هذه الأطروحة  أول ما وضعها في عام 44 ق. م تحت عنوان "عن الشيخوخة". ووفقا للمترجم كان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين فتهدي الطبقات العليا في المجتمع الروماني إلى الحياة الطيبة بعد أن خلف ضعف العقيدة الدينية لديها فراغا أخلاقيا لاح معه أن روما تتردى في مهاوي الانحلال الأخلاقي والاجتماعي. 
وأضاف أبو رفيعة أن شيشرون لم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاما جديدا بل كان كل ما يهدف إليه هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته. وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته من رسائل بانتيوس وبوسيدونيوس وغيرهما من فلاسفة اليونان المحدثين، وأن عمله لا يزيد على تكييف رسائلهما تكييفا جديدا، بل أحيانا لا يفعل أكثر من ترجمة هذه الرسائل. ولكنه حول نثر هؤلاء الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة واضحة وجذابة، وجمّل بحوثه بالحوار، وكان يتنقل فيها تنقلا سريعا من بيداء المنطق وما وراء الطبيعة الجدباء إلى المشاكل الحية، مشاكل السلوك وحكم البلاد، وقد إضطر ـ كما اضطر لوكريشيوس ـ إلى ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة، ونجح في هذا نجاحا جعله صاحب الفضل على اللغة والفلسفة كلتيهما".

لئن كان الوقت المخصص لحياتنا قصيرا، إلا أنه كاف لأن نعيش حياة شريفة ولائقة. ولو حدث بمحض الصدفة أننا استمتعنا بحياة أطول فلا مدعاة أن نكون أكثر حزنا      

وأكد أبو رفيعة أن جوهر الفلسفة الشيشرونية يتمثل في إحساس بالدهشة إزاء الترابط القائم بين جميع بني البشر والكون الذي يجمعهم. ومنذ بواكير الأطروحات الشيشرونية عن أساليب الحكم في الجمهورية الرومانية حتى مقالته الأخيرة عن الواجبات، فإنه لم يتحدث عن السعادة الشخصية بقدر ما تحدث عن العلاقة بين الداخلي والخارجي بين الواحد والمجموعة والآني والخالد.
ولفت إلى أن شيشرون ألّف أطروحاته الفلسفية خلال فترات حياته التي بدا فيها أن مشاركته في العمل السياسي كانت تتسم بالخطورة أو غير أخلاقية أو مستحيلة. وقد غلب على هذه الأطروحات الطابع المتسرع والمشوش أحيانا. ورغم ما لها من قيمة أدبية فإنها تفتقر إلى الأسلوب الأخاذ الذي اصطبغت به أفضل خطبه. ومع ذلك فلأن هذه الأطروحات الفلسفة تصدر عن سياقات سياسية واجتماعية، فإن أثرها ظل باقيا ظل باقيا على أجيال متعاقبة من القراء.
ورأى البروفسور توماس فريمان في مقدمته أن تناولَ المؤلفين اليونان قبل شيشرون موضوعات تتعلق بالحقبة الأخيرة من العمر بأشكال كثيرة. ونسب بعضهم إلى المسنين صفات مثالية باعتبارهم من رواد الحكمة المستنيرين كما فعل هوميروس مع الملك نستور، في حين تعرض آخرون لهم بالاستهزاء والسخرية فصوروهم على نحو كاريكاتوري بأنهم أشخاص منهكو القوى ودائمو الشكوى. وربما كانت الشاعرة سافو التي عاشت في القرن السادس ق. م من أبرز المؤلفين الأقدمين الذي كتبوا حول هذا الموضوع، حيث رثت شبابها الضائع في إحدى قصائدها التي جرى اكتشافها مؤخرا حيث تقول:
"ها هي بشرتي التي كانت في ما مضى تعلوها التجاعيد،
وأصبح قلبي مثقلا بالأحزان، ولم تعد ركبتاي بقادرتين على حملي
ولطالما يفجعني ضياع تلك الأشياء ـ ولكن ما حيلتي؟
فليس بمقدور أي من البشر أن يهرب من الشيخوخة".

ليس هناك احتمال ثالث

على أن شيشرون في مسعى للنأي بنفسه عن الاستسلام للشيخوخة، حاول أن يقدم عنها صورة أشمل. ولئن اعترف بما تنطوي عليه سنوات العمر الأخيرة من أوجه القصور فقد قال إنه يمكن التعامل معها كفرصة للنماء والاكتمال في ختام حياة سعيدة.
اختار شيشرون للتحدث نيابة عنه في حواره الخيالي كاتو الأصغر، وهو قائد روماني كان يعيش في القرن المنصرم وكان شيشرون يكن له إعجابا عظيما.
يقول شيشرون:
ـ  "الرجل المسن يمكن أن يثير المتعة أكثر من الضجر. وكما يستمتع المسنون الحكماء بصحبة الشباب حسني الطوية الذين يخففون عنهم ثقل الشيخوخة بما يلقونه منهم من عواطف وتكريم، فالشباب أيضا يستمتعون بمشورة كبار السن التي تدعوهم إلى الفضيلة، وأظن يا صديقي، وأنتما من الشباب أنكما تستمتعان بصحبتي بقد ما أستمتع بصحبتكم. وهكذا ترون أن الشيخوخة أبعد عن كونها وقتا للضعف والخمول، يمكن أن تكون وقتا للنشاط الدائب وتجعلك دائم الانشغال في عمل شيء ما، كما أنها توالي اهتمامات المرء في مرحلة الشباب، ولا ينبغي أن تتوقفوا عن طلب العلم، مثلما يفخر صولون (رجل دولة وقانون من أثينا) بأنه في شيخوخته كان يتعلم أشياء جديدة كل يوم. ولقد فعلت الشيء نفسه وقمت بتدريس اليونانية في شيخوختي، وعكفت على هذه الدراسة كشخص يحاول إشباع ولعه القديم. ولقد سمعت أن سقراط تعلم في شيخوخته العزف على القيثارة، وهي آلتي الموسيقية المفضلة التي كان يستخدمها الأقدمون. وأتمنى أن أتمكن من ذلك أيضا، ولكن على الأقل ركزت جهدي على الأدب".
ـ "كم هو رائع أن تهدأ الروح بعد طول كفاح مع الشهوة فتنتهي هذه المعارك وتعود الروح إلى مأواها. فليس هناك رضى يمكن أن يحصل عليه المرء في الحياة أعظم من شيخوخة هادئة يكرسها للمعرفة والتعليم. ولقد تعودت يا سكيبيو أن أرى صديق أبيك، جايوس جالوس، وهو يقوم بعمليات القياس المتعلقة بالسموات والأرض. ولكم أدهشته شمس الصباح وهو يعمل على خرائط سهر الليل في إعدادها. ولكم أدركه الليل وهو يحاول الانتهاء من مهام بدأها في الفجر، وكان سعيدا بما يحدثنا عنه من كسوف الشمس وخسوف القمر قبل وقوع أي منهما".
ـ "ما أتعسه حقا ذلك الرجل الذي لم يدرك عبر حياته الطويلة أن الموت ليس بالأمر الذي يتعين عليه أن يخشاه. فالموت إما أن يدمر الروح البشرية تماما، وهو في هذه الحالة أمر لا يستحق الاهتمام، وإما أنه يأخذ الروح إلى مكان تخلد فيه إلى الأبد، وهو في هذه الحالة أمر مرغوب فيه، وليس هناك احتمال ثالث".

 

ـ "ولا ينبغي لأي ممثل أن يظل على المسرح طوال المسرحية، وإنما يكفي أن يظهر في الفصول المناسبة. وبالمثل فإنه لا حاجة لأي رجل حكيم أن يبقى على مسرح هذه الحياة إلى أن يحظى بتهليل الجمهور في النهاية. ولئن كان الوقت المخصص لحياتنا قصيرا، إلا أنه كاف لأن نعيش حياة شريفة ولائقة. ولو حدث بمحض الصدفة أننا استمتعنا بحياة أطول فلا مدعاة أن نكون أكثر حزنا من فلاح فوجئ بتحول المناخ من جو ربيعي ممتع إلى جو صيفي أو خريفي. فالربيع هو مثل الشباب الذي يحمل وعد الثمار المقبلة. أما سنواتنا الأخيرة فهي فصول للحصاد أو تخزين المحاصيل".