لبنان ما بعد الانهيار

الدولة اللبنانية تحللت كمؤسسات، وإعادة تكوينها يستلزم رؤية إقليمية ودولية لدور لبنان في ظل المتغيرات التي تعصف في كل مكان.
الحكومة المنتظرة، وإن تشكلت فلن تستطيع الوفاء بأي من وعودها
لبنان دخل مرحلة التحلل بعد الارتطام المدوي وإعادة الإنقاذ تتطلب جهودا خارقة
مدخل الحلول يكمن في إعادة لبنان الى محيطه العربي الذي يمكن ان يؤمن له الغطاء الدولي

قدر لبنان ان يتخبط بأزمات متلاحقة لا تنتهي منذ قرن من الزمن، ما يطرح تساؤلا جديا حول إمكانية استمراره ككيان؟ اذ ان ازماته الأخيرة تعدت ان تكون ازمة حكومة او حكم، ودخلت مراحل الخطر الشديد حيث معالم تحلل الدولة والسلطة باتت واضحة، في ظل شبه غياب تام للمؤسسات المعنية باتخاذ حتى القرارات الروتينية المتصلة بتصريف شؤون الناس الحياتية الأساسية.

فالسلطة التنفيذية مستقيلة من مهامها في ظل غياب فاعل للسلطة التشريعية، الامر الذي انسحب وبعنف على السلطة القضائية باختصار، سلطة نظام تحتضر وسط أزمات حياتية لا تعد ولا تحصى، ما انعكس على السلوك النفسي الاجتماعي للمواطنين، إضافة الى تكرار مظاهر المجازر بحق المواطنين ليس أولها انفجار المرفأ العام الماضي، ولن يكون آخرها انفجار عكار الذي اودى بحياة العشرات من القتلى والمفقودين والجرحى.

السؤال الذي يُطرح الآن، ماذا بعد الارتطام والانهيار الحاصل؟ هل هناك معطيات تقود الى إمكانية تعويم مشاريع حلول ما في المستقبل؟ والمشكلة في الإجابة تكمن في ارتباط الموضوع في العديد من المؤثرات الرئيسة الخارجية المتصلة باستغلال واضح وقوي من مختلف الاطراف اللبنانيين المنقسمين عاموديا حول العديد من القضايا الرئيسة والثانوية، وبالتالي صعوبة التوصل الى رسم صور لمعالم حلول ممكنة.

في أي حال من الأحوال، وان شكلت الحكومة، فلن يكون بمقدورها كالعادة تنفيذ أي من وعودها لاسيما وأنها ستكون من حيث المبدأ حكومة تصريف أوضاع معقدة وصولا الى استحقاقات رئيسة في الحياة السياسية اللبنانية المتصلة بإمكانية إعادة تركيب السلطة في لبنان، الانتخابات النيابية وما سيليها من استحقاق انتخابي رئاسي، وفي كلتا الحالتين ثمة صعوبات كثيرة جدا تبتدأ في الأولى على قاعدة أي قانون انتخابي ستحصل، وهو قانون لم يتم التوصل اليه في حالات الوفاق الدنيا، فكيف اليوم والانقسام بلغ الذروة، واذا حصلت والامر صعب كيف سيتم الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية وهو بطبيعة الحال سيكون مجال شد وجذب بين كتل لن تكون مقررة، وهي ملزمة بتحالفات هجينة، وقياسا على سوابق عدة في الحياة الانتخابية الرئاسية، فان فراغا يمكن ان يحصل ويطول، وبطبيعة الأمر سيتخلله حالات احتراب قوية على الطريقة اللبنانية، كعام 1988 و2007 و2013 التي شهدت فراغات رئاسية وتنفيذية.

والأخطر من كل ذلك، الوضع الاقتصادي الاجتماعي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الازمات اللبنانية المتواصلة، فالفقر والعوز دخل غالبية البيوت اللبنانية، حيث الأربعة بالمئة تعيش برفاهية والستة والتسعين عاجزة عن تأمين مستلزماتها الأساسية، إضافة الى مظاهر النزف في الكوادر الاجتماعية هجرة وهربا وبالتالي تفريغ المجتمع من كوادر طبية وهندسية واكاديمية حيث بلغت الأرقام حدودا مرعبة، وسط حد ادنى للرواتب وصل الى اقل من ثلاثين دولارا، وهو يُعد فقرا مدقعا، وسط مظاهر اجتماعية مأساوية تصل الى حد انتشار الجريمة المنظمة الناجمة عن تردي الأوضاع السلوكية الناجمة عن العوز.

في أي حال، دخل لبنان مرحلة التحلل بعد الارتطام المدوي، إعادة الإنقاذ تتطلب جهودا خارقة لا تقتصر على الداخل، وانما تستلزم رعاية عربية ودولية خاصتين بالنظر لحجم المتطلبات الاقتصادية والمالية والاستثمارية، حتى وصولا الى مرحلة البناء الاجتماعي بعدما إصابته بشروخ هائلة. ذلك وسط شبه اجماع على ان الامر يتطلب إعادة بناء عقد سياسي اجتماعي دونه عقبات كثيرة وسط انشغال العالم بهمومه التي لا تنتهي.

الدولة اللبنانية تحللت كمؤسسات، وإعادة تكوينها يستلزم رؤية إقليمية ودولية لدور لبنان في ظل المتغيرات التي تعصف في كل مكان، فهل سيتمكن اللبنانيون من فهم هذا الواقع والتفتيش عن رؤية تعيده الى دور ما في المنطقة يحمي كيانه ووجوده، ام ان اللبنانيين على طريقتهم سيسيرون في اثارة صراعاتهم وبالتالي القضاء على أي فرصة للنجاة، ان مدخل الحلول تكمن بإعادة تموضعه العربي الذي يمكن ان يؤمن غطاءً دوليا لإعادة برمجة وقائع جديدة قابلة للحياة.