لبنان وملأ الفراغات

يبقى كرسي الرئاسة الاستحقاق المفقود المزمن.

من مفارقات الواقع اللبناني سرعة الاستجابة والتحول مع أي معطى يمر به، ومن بينها التعايش مع فراغات تعتبر مدمرة وقاتلة في الدول والنظم السياسية. الا ان ما مر به لبنان مؤخرا يعتبر سابقة في حياة الدول، حيث امتداد الفراغات في معظم المؤسسات الدستورية والسياسية والمالية والعسكرية والأمنية وغيرها الكثير، والمفارقات الاغرب، ان سد الفراغات بالتعيينات تأتي على قاعدة إدارة الازمات بالازمات، باعتبارها الأداة الانجع والانجح لتمرير الاستحقاقات بأقل التكاليف وبأكثر القدرات على الاستثمار.

آخر ملئ الفراغات كان تعيين رئيس للاركان في الجيش اللبناني، وهو مركز تم التوافق عليه بعد جهد جهيد، وقبله أيضا قيادة الجيش وقبله أيضا حاكمية مصرف لبنان، علاوة على مراكز ومناصب مررت بتوافق الحد الأدنى في ظروف دقيقة جدا تستدعي في الأساس تعاطيا موضوعيا يراعي حساسية المراكز من جهة ودقة الظروف من جهة أخرى. ورغم كل تلك الحساسية مر معظم سد الفراغات بظروف ملائمة ولو على مضض من قبل بعض المعترضين، على امل القبول بمبدأ الاستثناءات تبيح المحظورات الى حين توفر الظروف والمعطيات الملائمة لتسيير الأمور الأخرى وفقا للأصول الدستورية والقانونية.

ووسط هذه الضغوط الهائلة، ظل موقع رئاسة الجمهورية شاغرا، وسط حراكات خارجية معروفة النتائج سلفا، وأيا منها لم يصل الى نهايات محددة وقابلة للحياة، ما يعزز بشكل قاطع ارتباط هذا الاستحقاق المفقود منذ سنة وثلاثة اشهر مع أزمات إقليمية وحتى دولية، لما لأطراف هذه الازمات من أدوار وازنة وفاعلة في الواقع اللبناني، ما يتيح لها المجال واسعا التحكم بضوابط العملية الانتخابية ونتائجها المحتملة او التي يمكن ان ترسم سلفا.

ومن بين هذه الارتباطات الحرب في غزة، وما تركت من واقع ووقائع مستجدة في الحياة السياسية اللبنانية، وربطت عنوة او عفوا بين معطيات العوامل الخارجية بالداخلية، وبالتالي ترك الفراغ الرئاسي مرتبط بتأمين الظروف المتقاطعة بين الأطراف الفاعلة لتمرير الملف بطرق مناسبة، بصرف النظر عن عوامل الوقت وتداعياته القاتلة على الواقع اللبناني ومتطلباته الدقيقة.

وفي واقع الامر، لا جدال في ارتباط انتخاب الرئيس اللبناني بعوامل وظروف عمل اللجنة الخماسية التي عملت بزخم واضح في بعض المراحل السابقة، وكادت تصل الى نتائج واعدة، الا ان مستجدات الواقع الإقليمي الحالي خفف من زخم عمل اللجنة رغم الحراكات القائمة حاليا بين فترة وأخرى، الا ان نتائجها الفعلية والعملية مرتبطة بعوامل لبنانية وغير لبنانية كثيرة، وبالتالي حراكها الفاعل مؤجل لنضوج ظروف صعب التحكم فيها وبنتائجها مسبقا.

والاغرب من ذلك قدرة الأطراف اللبنانيين على الاستثمار واستغلال بعض التباين في مواقف اللجنة الخماسية اما لتمديد الفراغ بانتظار ظروف داعمة او محبطة، واما لاستمالة مواقف بعضها باتجاهات مفيدة للأطراف اللبنانيين. وبذلك بدت بعض تباينات اللجنة الخماسية مصدرا يستند عليه اللبنانيون لتعزيز تبايناتهم حول الاستحقاق وكيفية الاستفادة من عدم توحيد الرؤى الإقليمية والدولية حيال الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وفي واقع الامر أيضا، ان الدور الفرنسي مثلا في الحراك القائم، هو دور مرتبط عمليا بتفويض أميركي محدد، وسط عدم قدرة باريس على الذهاب بعيدا ومنفردة في تكوين وسائل فاعلة لفرض حلول قابلة للحياة، ما يعزز استمرار الازمة وتفاقم التباينات اللبنانية والخماسية، وبالتالي ابتعاد بيئة الحلول الى آجال ليست منظورة اقلها في الوقت الراهن.

ان استمرار الفراغ الرئاسي يعزز نظرية تحلل الدولة ومؤسساتها في لبنان، لاسيما وان الكثير من المراكز الحساسة مرتبطة بموقع رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية المسؤولة عن إدارة الملفات والتعيينات. وفي ظل الشغور سيظل التمدد في الفراغ قائما ومستمرا، وبالتالي تراكم المشاكل والأزمات وصعوبة التوصل الى حلول فعالة وسريعة. وما يزيد من تفاقم الازمة، مجموعة الاستحقاقات المنتظرة، وضرورة ان يكون لبنان قد هيأ البيئة المناسبة للمشاركة فيها، لاسيما وان الكثير من الملفات تتطلب رؤى ومواقف لبنانية واضحة ودقيقة، لاسيما الملفات المتصلة بواقع الكيان اللبناني وما يؤثر بمستقبله ودوره المفترض في واقع إقليمي متأزم ترسم فيه خرائط وادوار ينبغي على كل طرف التواجد فيها بشكل فاعل وقوي، لئلا تكون الحلول على حسابه وبالتحديد مستقبله الكياني ووظيفته.

لقد مر لبنان في ظروف دقيقة وخطرة في معظم مراحل تاريخه السياسي منذ انشائه في العام 1920 وحتى اليوم، والفراغات الرئاسية ليست سابقة، بل تكررت في مراحل متعددة، أولها كان في أيلول/سبتمبر 1988 حين انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل، وفشل مجلس النواب في انتخاب خلف له، وتعيين قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون رئيسا للحكومة، وثانيها بعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود في العام 2005، وثالثها بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، ورابعها بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وفي واقع الامر لقد بات استحقاق انتخاب الرئيس في لبنان مناسبة دائمة لتقاطع الخلافات الداخلية مع الاستثمارات الخارجية، ودوام ظهور هذا الاستحقاق بمثابة المحطة اللازمة لاعادة الاصطفافات والتناحر الداخلي اللبناني، الدي غالبا ما كان يصل الى حدود ازمة كيان وانحلال وطن.