لعبة الدومينو على الارض العراقية

هل سيفعلها عادل عبدالمهدي ويخرج من جلبابه الحزبي؟

اسئلة عديدة تؤرق الساسة والمراقبين وهم يتابعون اصرار الشارع العراقي الكبير على تحقيق اهدافه في الحياة الكريمة متحديا الاجراءات القمعية التي تصدرها الحكومة العراقية وفصائلها المسلحة بحقه. ترى لمصلحة من ما يحصل، ومن يقف وراء هذه التظاهرات التي اشتعل فتيلها قبل ايام؟

تصور الكثيرون في بداية التظاهرات انها كسابقاتها ستكون فورة غضب ما تلبث ان تخمد بمجرد اعطاء الحكومة العراقية لبعض الوعود المؤجلة ليعود كل شيء كما كان، وليعاني الفقير من فقره مرة اخرى، ويتنعم الفاسد بفساده من جديد. لكن يبدوان هناك شيئا مختلفا هذه المرة، فقد اثبت المتظاهرون عزمهم على المضي لاخر الشوط في المطالبة بحقوقهم، رغم عدد الضحايا والشهداء الذي يزداد يوما بعد يوم.

لا احد يستطيع انتقاد شعب يخرج مطالبا بحقوق مشروعة حرم منها طوال ستة عشر سنة، على يد احزاب لم تجلب لهم غير الدمار والفساد والتخلف. احزاب عاثت في الارض فسادا وفشلت في تقديم ادنى مستويات الحياة الكريمة لمواطنيها، بل وادخلت البلاد في ازمات مستمرة سياسية واقتصادية وامنية.

لذلك فمن الطبيعي ان نتسائل: ما الذي جعل هذا الشعب يستيقظ فجأة ويطالب بحقوقه بعد ما يزيد العقد والنصف؟ ولماذا الان؟ لمصلحة من تمنع عنه الحلول الناجعة؟

ان الازمات عندما يطول امدها وتتأخر حلولها، تنفتح على كل الاحتمالات، وتفسح المجال للتدخلات الخارجية باختلاف مسمياتها. ويبدو ان الحكومة العراقية تمارس بتقصد مبدأ المماطلة والتسويف لاطالة امد الازمة، وعدم التوصل الى حلول جذرية مع المتظاهرين، وان قدمت حلولا فهي حلول عقيمة لا تلبي الحد الادنى من مطالب التظاهرات. فمطالب الشارع لا تتلخص باحالة بعض الفاسدين الى المحاكم او تشكيل هيئة قضائية جديدة، او مقابلة ممثلين عن المتظاهرين ( للاستماع) الى مطالبهم، واعطاءهم وعود ببناء وحدات سكنية للمتعففين، او دعوة مقتدى الصدر بإقالة الحكومة واجراء انتخابات مبكرة. كل ذلك يعتبر التفافا حول مطالب المتظاهرين وضحكا على الذقون. فإجراء انتخابات مبكرة تشارك فيها ذات الاحزاب تعني خروجها من الباب ودخولها للمواطن من الشباك، لتستحوذ من جديد على تشكيلة الحكومة القادمة لكن بوجوه جديدة هذه المرة.

ان عرض مبادرات غير منتجة لا يأتي من عدم دراية اصحابها بسطحيتها وعدم جدواها، بل هو امر مخطط له بعناية، وتطرح عن سابق اصرار وترصد، الغرض منها اطالة عمر الازمة وتصعيدها اكثر. وفي الوقت الذي يطبق فيه الساسة العراقيون هذا المخطط بإتقان بتوجيهات خارجية، فان الشارع العراقي يسطر اروع الملاحم في تحديه لماكنة الرعب المليشياوية التي تستهدفه قتلا وقنصا واعتقالا.

اذا ما درسنا الحيثيات التي سبقت مرحلة التظاهرات بدقة سيكون بالامكان تحديد الجهات المستفيدة من مرحلة اللاحل التي وصلت اليه الامور في هذا الحراك الشعبي المبارك. فما يحدث في العراق الان لا يمكن فصله عما يحصل في المنطقة، وبالاخص ما يتعلق بالتوتر القائم بين ايران من جهة، واميركا واسرائيل من جهة اخرى. فقد حاولت ايران بما تمتلك من علاقات استراتيجية مع الاحزاب الشيعية ومليشياتها المسلحة، جر هذا البلد رسميا الى جانبها في صراعها مع اميركا، غير ان اميركا ومن خلال ادوات ضغطها على الحكومة العراقية افشلت الطموح الايراني هذا، ولم تستطع الحكومة العراقية اخذ موقف رسمي حكومي مؤيد لايران ومضاد للتوجهات الاميركية، فالتزم العراق الرسمي جانب الحياد في مواقفه بين القوتين، لا بل واحيانا وقفت على النقيض من المصالح الايرانية، مثل الموقف الرسمي العراقي من العقوبات الاميركية ضد ايران والضغط على الفصائل المسلحة الشيعية.

وهكذا ادركت ايران ان العراق الرسمي عاجز عن الابتعاد عن الموقف الاميركي، رغم ان الاحزاب الشيعية تمثل الاغلبية في هذه الحكومة، وان نفوذها السياسي والمليشاوي والاقتصادي اخذ بالانحسار تدريجيا نتيجة الضغوطات الاميركية، وعليه فان الخيار الوحيد الذي بقي امامها اضعاف النظام السياسي الرسمي وتحييد دوره في اتخاذ القرار، لتتمكن هي من تمرير مشاريعها داخل العراق من خلال الفوضى الخلاقة التي ستنتج من اضعاف العراق الرسمي. وللوصول الى هذا الهدف وجب افتعال ازمة داخلية تربك المؤسسة الرسمية وتلهيها وصولا الى اضعافها. فجاءت التظاهرات الحالية لتكون الخيار المناسب لها لتحقيق هذا الهدف، ونجحت في توظيفها من خلال ديمومتها بالطرق التالية:

الاولى: التصدي للتظاهرات باستخدام القوة المفرطة لاثارة حنق الشارع على الحكومة اكثر، مع سجن بعض المتظاهرين او استخدام الرصاص الحي ضدهم من قبل عناصر مسلحة مجهولة الهوية.

الثانية: بالمقابل قتل منتسبي القوات الامنية واتهام افراد "مندسين" في التظاهرات به، بغية خلط الاوراق وتصعيد مستوى التوتر في الشارع.

الثالثة: طرح مشاريع حلول عقيمة من قبل الحكومة العراقية تكون مرفوضة سلفا من قبل المتظاهرين كما ذكرنا قبل قليل.

ان الحديث عن اقالة الحكومة الحالية يهدف الى سيطرة الفصائل المسلحة الشيعية على مجمل الوضع العراقي الامني منه والسياسي، وايران والاحزاب الموالية لها في العراق تعرف انه حتى لو اجريت انتخابات جديدة او تم تعين رئيس وزراء جديد فالرفض الشعبي لهذين الخيارين سيستمر مما يؤدي الى استمرار الفوضى وبالتالي الامعان في اضعاف الحكومة، وهذا يصب في خانة تعظيم دور المليشيات على حساب دور الحكومة الرسمي مما يصب في صالح التوجهات الايرانية.

وبشكل عام فحتى لو لم تتحقق الاهداف الايرانية سالفة الذكر من الفوضى الخلاقة هذه، فان ارباك الوضع الداخلي العراقي سيؤدي الى انشغال اميركا والمجتمع الدولي به على حساب تركيزهما على الملف الايراني وهذا ايضا يصب في صالح الاجندات الايرانية.

في كل هذه المعادلة يظهر ان كبش الفداء الوحيد سيكون رئيس الوزراء الحالي الذي سيتم التضحية به كإجراء اولي على طريق اضعاف الحكومة وتحييد تأثيرها، لكن في الوقت نفسه يمكن للرجل ان يقلب الطاولة على راس المتربصين به اذا خرج من قمقم الاسلام السياسي. فامام عادل عبدالمهدي فرصة حقيقية للظهور كقائد وطني عراقي دون انتمائات خارجية او حزبية، فهو من الساسة العراقيين القلائل الذين تنقلوا بين مدارس سياسية شتى، فمن الفكر القومي الى الفكر الشيوعي واخيرا الفكر المذهبي، وهذا يشير الى انه يتمتع بأفاق فكرية اوسع من زملائه المنغمسين حتى اذانهم في نظريات الاسلام السياسي المقولبة، لذلك فهو من اكثر الساسة الذين يمكن المراهنة عليهم في احداث تغير حقيقي في الوضع العراقي، شرط ان يخرج من جلباب مدرسته الفكرية الحالية، ويعتمد على المد الشعبي الواسع المطالب بالتغيير حاليا لكسبه. فاعتماده على الرفض الشعبي للساسة الحاليين سيحشد الشارع المشحون حاليا ورائه، بالاضافة الى قوى سياسية علمانية عراقية، واطراف اقليمية ودولية معارضة للتأثير الايراني في العراق، وبذلك سيكون بمقدوره سحب البساط من تحت ارجل جميع الذين ينوون التضحية به من اجل اجندات خارجية.