لعبة روحاني.. العراق المرقد وليس الدَّولة

لو كان الإمام الكاظم نفسه رئيساً، ما سُمح له زيارة مرقد ولده الرِّضا مِن قِبل إيران، إذا جرت على طريقة روحاني.

زار الرئيس الإيراني حسن روحاني العِراق (11 مارس 2019)، وكانت زيارة رسمية، وليست دينية للمراقد. فقد جرت العادة في الزيارات الرسمية أن يُستقبل الضيف رفيع المستوى استقبالاً رسمياً، عند وصوله، وتُعلن الزيارة عبر الإعلام إذا لم تكن سرية، وحتى في الزيارة السرية يُستقبل الضيف رسمياً لكن روحاني أسرع مِن المطار إلى زيارة مرقد الإمام موسى بن جعفر الكاظم ببغداد، مختصراً الدَّولة العراقية بالمرقد، وكأنه يريد أن يقول: لنَّا العراق عبر المراقد. إنها محاولة لكسب عاطفة المجتمع الشيعي بهذه الحركة. يمكن أن يحصل هذا لو كانت الزَّيارة سياحة دينية، وليست رسمية لدولة يفترض أن لها رئيساً وحكومة.

يريد روحاني استعراض قوة الوجود داخل العراق عبر المرقد، الذي اُفرغ له من الزائرين للحماية، وهو تأكيد للعلاقة بالأحزاب الدِّينية، التي طالما استغلت المراقد عبر مواكبها الحسينية، لجذب عاطفة الجمهور. فمن السذاجة أن يُفسر تصرف روحاني، والذي لم يكن بعيداً عن اللعبة السياسية، على أنه أمر عادي، وأن تقاليد الاستقبالات الرَّسمية بدعة، وأن تجاوز الرَّئيس الإيراني (الثوري) لها لا يُقصد به مغنماً سياسياً، بينما يكشف التَّجاوز هذا عن رسالة صارخة، ليس المقصود بها تكريم مرقد الإمام، بقدر ما هو استغلاله تماماً، وهي محاولة لإعادة الاعتبار لنظام ولاية الفقيه في ظل النفور الشيعي العراقي منه، الذي عبر عنه البصريون قبل شهور، وتقوية معنوية لميليشيات النظام المذكور داخل العراق. والمعنى علاقتنا مع المرقد وليس الدَّولة، لهذا كان المرقد قبل الدَّولة.

عُقدت خلال الزيارة اتفاقيات، رفعت التبادل التِّجاري مِن اثني عشر ملياراً في العام إلى عشرين ملياراً، ويبدو التبادل في ظروف العراق الحالي، المعطل صناعياً وزراعياً، من طرف واحد، إيران تنتج وتصدر، والعراق يستورد ويستهلك، بما فيها استيراد الكهرباء والوقود، ورفع التأشيرة بين البلدين، وهذه كذلك يفيد طرفاً واحداً، فعدد الزائرين الإيرانيين للعراق يضاعف عدة مرات الزائرين العراقيين، وهذا ربح لإيران وخسارة للعراق، ناهيك عن التأكيد على معاهدة مارس 1975، التي عقدها النظامان السابقان بالعراق وإيران، وأخذت إيران فيها الحصة الكبرى من مجرى شط العرب.

كان على العراق -إذا كانت هناك حكومة غير مرتهنة للجمهورية الإسلامية، وهو أمر طبيعي للأحزاب الدِّينية التي تشكل موقع القوى فيها- أن يجري التفاوض على حقوق العراق المائية، ورفض تلك المعاهدة المجحفة بحق العراق، والأكثر من هذا، لو كانت هناك حكومة في نيتها التَّخلص من وجود الميليشيات ذات التأسيس والإشراف والدعم الإيراني، والمرعية مِن قِبل الحرس الثوري ومكتب الولي الفقيه مباشرة، لجعلت حل الميليشيات والدعم الإيراني لها في مقدمة شروط الصفقة الاقتصادية، ولتفاوضت على غلق مكتب قاسم سليماني ببغداد، وأن يكون التفاوض بين طرفين متساويين.

أما التَّجاوز الآخر، خلال زيارة روحاني، فهو لم يحدث لأي دولة بالدُّنيا، أن يُفتش، أو يُستعرض، حرس الدَّولة المضيفة مِن قِبل الضيف مرتين، الأولى عندما استقبله رئيس الجمهورية، والثانية عندما استقبله رئيس الوزراء، وعلى ما يبدو أن رئاسة الوزراء لم تكتف بحفاوة الرئيس برهم صالح، لأنه لا يمثل القوى الدِّينية، ولابد أن تنفرد هذه القوى، ممثلة بعادل عبدالمهدي، باستقبال خاص. لم يكن هذا التصرف عابراً، أو خطأ غير مقصود، فالزائر قادم ممن يعتقد أنه يملك أمر العراق، وهو الولي الفقيه، على أن كلمته الفصل عن طريق أدواته القوى الدينية.

لم يفكر مسؤول عراقي، لا من المتدينين ولا سواهم، أن يفرض حقوق العراق في المياه، ومنع التدخل المفضوح، والوقوف ضد جر العراق إلى مناطق نزاعات إيران الثورية. إلا مرجعية النّجف أشارت خلال استقبال آية الله علي السِّيستاني لروحاني إلى الدّعم الإيراني لفوضى السّلاح داخل العراق، وأن المساعدة في دحر «داعش» لا يجب أن تكون سبباً للتصرف بشؤون العراق، وأن تتسم سياسة الدول الإقليمية بالاعتدال، وهي إشارات لإيران قبل غيرها.

يفهم ذلك مما جاء في البيان الصادر بخصوص اللقاء بين روحاني والسيستاني، والمنشور على موقع المرجعية الرَّسمي: «أهم التحديات التي يواجهها العراق في هذه المرحلة وهي مكافحة الفساد وتحسين الخدمات العامة، وحصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها الأمنية، مبدياً أمله أن تحقق الحكومة العراقية تقدماً مقبولاً في هذه المجالات. وعلى ضرورة أن تتسم السياسات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة الحساسة بالتوازن والاعتدال، لتجنب شعوبها مزيداً من المآسي والأضرار».

أقول: لو كان الإمام الكاظم نفسه رئيساً، ما سُمح له زيارة مرقد ولده الرِّضا مِن قِبل إيران، إذا جرت على طريقة روحاني. لكن هذا زمن العمائم السِّياسية، فأين موقع صديقنا العزيز الرئيس برهم ومدنيته منها، والكلام لجرير الخطفي (ت 110هـ): «يا أيّهَا الرّجُلُ المُرْخي عِمامَتَهُ/ هذا زمانكَ إني قدْ مضى زمني/ أبلغْ خليفتنا إنْ كنتَ لاقيهِ/أنيَّ لدى البابِ كالمصفودِ في قرنِ»(الدِّيوان). لهذا بطل استقبال الرئيس برهم للضيف المعمم، فجُدد، على شاكلة تجديد الوضوء، مِن قبل مَن يُجيد السَّير وراء عمائم الإسلام السِّياسي، العابرة للجغرافيا والحدود الوطنية، فكل الأرض جمهورية إسلامية بعرفها، حيث ترسيخ فكرة الولاية والمرقد مكان الدَّولة.