للشعب السوداني كلمة لا يرغب في سماعها أحد

المرحلة المدنية ستكون غامضة بالمقارنة لمرحلة العسكر التي لا تتضمن سوى طموحات في الحكم، بكل ما تنطوي عليه من فساد.

مَن يمثل سلطة القانون في السودان بعد أن قرر العسكر أن يكون حوارهم بالسلاح؟ المعارك المستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تنزلق بالدولة إلى مرحلة، تكون فيها الحرب الأهلية هي الحل. الفاجع بالنسبة للمدنيين الذين كانوا يستعدون لتسلم مقاليد الحكم أن أحدا من الطرفين لم يعرض عليهم أسباب الخلاف وفيما إذا كان ذلك الخلاف سببا مقنعا لنشوب حرب، يعود من خلالها السودان إلى نقطة الصفر التي تجعل من مرحلة ما بعد البشير فراغا فشل في أن يملئه السودانيون. فبعد أن سقط نظام البشير تعثرت محاولة إقامة نظام بديل، يكون مختلفا عنه. كل المشاورات والحوارات كانت عبارة عن حزمة من وسائل التضليل والخداع وسرقة الوقت. تبخرت كل وعود العسكر كما لو أن شيئا لم يتغير وصار واضحا أن الانقلابيين لا يبيت بعضهم للبعض الآخر سوى الشر وأن مواقع القوى أنما هي الخطوط الأولى للدفاع عن مصالح جهات لم يحن الوقت للإعلان عنها. وهي جهات، يعرف الطرفان أن الحل والربط بيدها.

هل هي إذاً حرب بالوكالة؟ منذ أن انكشفت علاقة النظام السوداني بالإرهاب الدولي من خلال تنظيمات الإسلام السياسي أيام البشير والسودان تحت الضوء وأيضا تحت المطرقة. حاصرته العقوبات وضغطت عليه واحكمت الطوق على سياساته التي توجت بانفصال الجزء الجنوبي منه وقيام دولة جنوب السودان اعلانا لنهاية حرب استمرت زمنا طويلا. كان انفصال جنوب السودان محاولة أولى لفك الحصار لم تنجح. وحين تم التخلص من نظام البشير لم يكن قرار إنهاء الحصار جاهزا. كانت هناك شروط معلنة من بينها التطبيع مع إسرائيل. غير أن ما يُعلن في عالم السياسة ليس هو كل شيء. هناك ملفات سرية لها علاقة بثروة اسودان الحقيقية من المعادن والتي لم يدخلها السودانيون المشغولون بحروبهم في حساباتهم.

كان وجع السودانيين ينصب على أن بلدهم حُرم من حقيقته الجاهزة، سلة غذاء تغنيهم عن المساعدات وتضعهم في أعلى لائحة الشعوب التي لن تجوع. ولأن السودان بدا بلدا فقيرا، شكلا ومحتوى فإن يأس سكانه قد انصب على الغذاء من غير التفكير بما تختزنه الأرض من ثروات، كانت محل اهتمام القوى الكبرى التي لم تر في ضياع السودانيين وسط خرافاتهم العقائدية إلا مناسبة لتأجيل مشاريعها في النهب الذي ينبغي أن يكون مبرمجا. في ظل تلك العقدة لم يكن مسموحا للمرحلة الانتقالية أن تفضي إلى ما كان مخططا له. ذلك لأن الانتقال إلى الحكم المدني معناه ظهور معادلات سياسية أقل ما يميزها أنها ستكون ذات برامج وطنية، سيكون من الصعب تفكيك توجهاتها وما يمكن أن تنطوي عليه من أسرار. ستكون المرحلة المدنية غامضة بالمقارنة لمرحلة العسكر التي لا تتضمن سوى طموحات في الحكم، بكل ما تنطوي عليه من فساد.

تعرف القوى الكبرى ما الذي حدث ويحدث في السودان من جهة الأسباب والدوافع. فقد تم تحليل كل شيء. كان السودان دائما تحت العدسة المكبرة. ولم يكن حرمانه من علمائه ومفكريه وأدبائه وأطبائه ورساميه ومهندسيه محض صدفة. لذلك يمكن اعتبار السماح بظهور حسن الترابي في زمن البشير نوعا من محاولة السخرية من السودانيين الذين يجلون خيالهم ويحترمون وعيهم. كان الترابي رجل الخرافة الذي احتال من خلالها على الواقع ليكون سيد الموقف. لقد أضاع العسكر زمنا طويلا على السودانيين، بدءا من جعفر النميري وانتهاء بعبد الفتاح البرهان. ذلك زمن لم يتعرف الشعب السوداني على حقيقة موقفه من بلاده وعلى نوع النظام الذي يحكمه على البرامج الاقتصادية التي تسير حياته اليومية.

قد لا تكون الحرب الحالية سوى محاولة لإزاحة المدنيين من مجال الحكم. تلك فكرة شريرة يمكن أن تفسر ذلك الصراع العبثي بين العسكر. كل الوساطات انما ترمي إلى تطبيع وجود الفريقين المتقاتلين من غير النظر إلى مصالح الأكثرية التي دُفعت إلى الصمت في ظل ضجيج السلاح. أما كان الأولى أن يؤخذ رأي المدنيين بما يحدث؟ إذا كان البشير لا يزال في سجنه فإن له رأي في ما يفعله تلاميذه. وهو رأي ساخر. ذلك لأنه يعرف ما يسعون إليه. ولكن الشعب السوداني يظل مستبعدا مثلما كان دائما. وليس أمامه سوى أن ينتظر متى تنتهي الحرب ليقول كلمته. وهي كلمة لا يرغب في سماعها أحد.