لماذا ترفض إسرائيل وقف الحرب؟

وجدت إسرائيل في عملية طوفان الأقصى الحمساوية فرصة لتحقيق أهدافها أو تسريعها. هدفها ليس انهاء الوجود العسكري لحماس واستعادة المخطوفين من جنودها كما أعلن نتنياهو، بل هناك أهداف أكبر بكثير.

بالرغم من كل ما قدمته حركة حماس من مرونة في مفاوضات القاهرة اليومين الماضيين تستمر إسرائيل رفض وقف الحرب، لأن مشكلة إسرائيل في قطاع غزة وبشن حرب الإبادة والتطهير العرقي لم تكن حركة حماس وسلاحها ولا المخطوفين الإسرائيليين، وهذا يؤكد ما سبق أن كتبنا عنه مطولاً وخصوصاً في مقالنا "ما هو خفي في الحرب على غزة" المنشور في فبراير 2024.حيث تم تدمير غالبية قدرات حماس العسكرية كما انتهت جبهة الدعم والإسناد الإيرانية الشيعية كما لم يتبق إلا القليل من الأسرى الإسرائيليين والكل يعرف وخصوصاً دولة قطر كيف كانت علاقة حماس بإسرائيل طوال 17 سنة.

هدف إسرائيل أبعد من ذلك ووجدت في عملية طوفان الأقصى الحمساوية فرصة لتحقيقها أو تسريعها، هدفها ليس انهاء الوجود العسكري لحماس واستعادة المخطوفين من جنودها كما أعلن نتنياهو بل هناك أهداف أكبر بكثير، فما هي قصة قطاع غزة مع اليهود ودولة اسرائيل؟ ولماذا هذا الحقد والكراهية الصهيونية اليهودية لسكان غزة وما تقوم به إسرائيل من حرب إبادة وتطهير عرقي بدعم كامل من واشنطن لقطاع غزة أكثر مما يجري في الأراضي الفلسطينية الأخرى.

بالرغم من أن كل مدن وقرى وربوع فلسطين متساوية من حيث الانتماء والمشاركة في النضال الوطني ومستهدفة من العدو إلا أن لغزة سر وقصة تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام.

تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا ينفصل صمود غزة وتاريخها النضالي المعاصر عن تاريخها القديم في مواجهة الغزو العبراني الأول، حيث جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو (سفر الملوك الأول 4: 24) الذي يعود لعهد سليمان كما يزعم اليهود: "إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبداً ضمن مملكة اليهود، وظلت بعد ذلك ملكاً للفلسطينيين ومنذ ذلك التاريخ وغزة ملعونة عند اليهود.

لن نخوض كثيراً في النص أعلاه، ولكن مع افتراض صحته فهو يؤكد على لسان اليهود أنفسهم على حقيقتين: الأولى أنه عندما جاء العبرانيون إلى فلسطين وجدوا فيها الشعب الفلسطيني وهذا يفند كل مزاعمهم بعدم وجود شعب يسمى الشعب الفلسطيني، والثانية أن لغزة تاريخ نضالي يمتد من العصور القديمة ولم يتوقف.

غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة بمواردها الطبيعية وشبه الصحراوية، لم تتميز فقط من خلال تاريخها ودورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 – كانت آنذاك تحت الحكم الإداري المصري - بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. قطاع غزة حافظ على الهوية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر، ومنح الأردن جنسيته وقوانينه لفلسطينيي الضفتين، فيما كان فلسطينيو الشتات يعيشون أوضاعاً صعبة.

خلال سنوات التيه والضياع استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية، وخصوصاً أنه بعد حرب 1948 تغيرت التركيبة الجغرافية والسكانية، حيث رسمت اتفاقية الهدنة – اتفاقية رودس 1949 بين مصر وإسرائيل - الحدود الحالية لقطاع غزة. قطاع غزة الذي كان تعداده حوالي ثمانين ألف استقبل مع حرب 48 حوالي مائتي ألف من لاجئي النكبة، مما غير من تركيبته الديمغرافية والسوسيولوجية، وأصبح ثلاثة أرباع القطاع اليوم من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعاً قوياً عندهم لرفض واقع اللجوء وإصرارهم على النضال من أجل العودة لأراضيهم التي هُجروا منها عنوة، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية.

في قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي وأبناء القطاع رفدوا الثورة الفلسطينية عندما كانت القيادة في الخارج بخيرة القيادات والمقاتلين، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات السلطة الوطنية التي كان يؤمَل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة، بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ، كما انطلقت منها الانتفاضة الثانية 2000.

لأن غزة كل هذا الماضي والحاضر، ولأن غزة أيضاً الواجهة البحرية الوحيدة للدولة الفلسطينية في حالة قيامها، ووجود نفط وغاز في مياهها ولأن غزة تأبى أن تنفصل عن الكل الفلسطيني وكانت تلبي نداء الواجب عندما يستنجد بها أهلنا في القدس والضفة، ولأن هذا الكيان يريد لغزة ومشاكلها أن تبعد الأنظار عن ساحة المعركة الرئيسية في الضفة والقدس... لكل ذلك حقد عليها وخطط لتدميرها وإنجاز ما عجز عنه العبرانيون الأوائل كما تقول أساطيرهم الدينية بالإضافة الى إفشال قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس، فساعد على حدوث الانقسام وفصل القطاع عن بقية الأراضي الفلسطينية ليبرر ما يقوم به من استهداف قطاع غزة وكل القضية الوطنية، وكانت حرب الإبادة والتطهير العرقي جزءاً من هذا المخطط حتى يدمر كل ما تم بنائه والأهم بالنسبة له تدمير صمود وكرامة وأنفة أهل غزة.

يمكن تلخيص الهدف الحقيقي لإسرائيل من الحرب وما هو متوقع كما يلي:

1- استهداف قطاع غزة بشكل عام بسبب تاريخه ودوره في احتضان المشروع الوطني التحرري، وتهجير سكانه لهذا السبب.

2- استهداف المشروع الوطني التحرري وتصفية القضية الفلسطينية ومن هنا نلاحظ التلازم بين ما يجري في القطاع وما يجري في الضفة والقدس من تسريع وتيرة الاستيطان والتهويد واقتحام للمخيمات ومحاصرة السلطة الفلسطينية ومحاولة تصفيتها.

3- فرض تحولات جيواستراتيجية في المنطقة العربية تتوافق مع مصالحها الاستراتيجية المستقبلية وقد بدأت ذلك بخديعة التطبيع من أجل السلام الابراهيمي في الفترة الأولى لحكم ترامب ثم تحاول استكمال المخطط بالحرب في حقبة ترامب الثانية دون حتى الحاجة لخطاب السلام.

4- إن إطالة أمد الحرب يضمن استمرار نتنياهو واليمين المتطرف في الحكم لأطول فترة ممكنة.

وأخيراً لو أن حماس لم تقم بداية بطوفانها وتخلت عن المعاندة والمكابرة في بداية المفاوضات لكان من الممكن تعطيل هذا المخطط الصهيوني الإستراتيجي وما كانت كل هذه الخسائر وهذا الدمار. ولكن الآن أخشى أن الأمور وصلت لدرجة حتى تسليم حماس كل المخطوفين الإسرائيليين وتخليها عما تبقى من سلاحها لن يردع العدو من تنفيذ أهدافه ولن ترجع الأمور كما كانت.  وهنا يكمن مأزق حماس ومأزق القضية الفلسطينية، والحل الوحيد هو تحرك عربي ودولي رسمي وشعبي، جاد لإجبار إسرائيل وقف الحرب ولو مؤقتاً مقابل تخلي حماس عن سلاحها ومغادرة المشهد الفلسطيني عسكرياً وسياسياً.