لماذا لا مفاجأة ثالثة في السودان!

مثالا الفريق إبراهيم عبود في 1964 والفريق عبدالرحمن سوار الذهب في 1986 ماثلان في الذاكرة في تقديم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية.

يظل السودان، بكلّ بؤسه وفقره وثرواته غير المستغلّة، بلد المفاجآت السعيدة. هناك حدثان مهمّان شهدهما البلد، الذي يمرّ حاليا في مرحلة صعبة. كان الحدثان الاستثنائيان في العامين 1964 و1986.

في 1964، اضطر الفريق إبراهيم عبود الى الاستقالة وإعادة الحكم الى المدنيين. وفي 1986، اكتفى الفريق عبدالرحمن سوار الذهب بتأمين انتقال السلطة الى المدنيين بعد انهيار نظام جعفر نميري. هناك ضابط سوداني عرف وقتذاك ان مصلحة البلد فوق مصالحه الشخصية وشهواته الى السلطة والثروة.

يشير الحدثان الى ان السودان يظلّ بلد المفاجآت. هل يقدم اللواء عمر حسن البشير على المفاجأة الثالثة ام يظل الرجل اسير خلفيته الاخوانية التي تعني بين ما تعنيه ذلك الشبق الذي لا حدود له للسلطة وغير السلطة. الا تكفي ثلاثون سنة في السلطة لضابط سوداني عرف كيف يناور منذ الانقلاب العسكري للعام 1989 من اجل البقاء في موقع الرئاسة باي ثمن كان... حتّى او كان هذا الثمن تقسيم السودان واستقلال جنوبه؟

في العام 1958، بعد عامين على استقلال السودان، نفّذ الفريق إبراهيم عبود الانقلاب العسكري الاوّل في تاريخ البلد. فعل ذلك بطلب من الحكومة المدنية. لم يكن لدى إبراهيم عبود ما يقدّمه للسودانيين سوى ضبط الوضع الداخلي بعدما أوصلت الخلافات بين الاحزاب السودان الى حدّ الإفلاس.

كان السودان، بعد استقلاله، بلدا واعدا في ظلّ حياة سياسية طبيعية وتعددية حزبية قابلة للتطوير. لكنّ الأحزاب السودانية، اكانت تقليدية او يسارية لم تكن في المستوى المطلوب. فتحت الابواب امام العسكر، لعلّ وعسى ينتشلون البلد من ازماته ومن لغة المزايدات...

كانت هناك دائما حيوية سياسية في السودان. كانت هناك أحزاب تقليدية مثل حزب الامة والحزب الوطني الاتحادي. يمثّل حزب الامّة طائفة الأنصار ويمثل الاتحادي الطائفة الختمية. في ظلّ هذه المعادلة، القائمة على الانتماء الى الأنصار او الختمية، كان الحزب الشيوعي حزبا نشطا وكان يعتبر اكبر الأحزاب الشيوعية في العالم العربي.

لا يمكن تجاهل ان إبراهيم عبود كان نظيف الكفّ وساعد في الخروج من أزمات كثيرة كان السودان يعاني منها، بما في ذلك ازمة تسويق القطن السوداني. بقي إنجازه الأكبر الانفتاح على الولايات المتحدة والاعتراف بالصين الشعبية في الوقت ذاته. حصل على مساعدات أميركية مهمّة بغية تنفيذ مشاريع معيّنة ذات طابع تنموي ساهمت في تحقيق انفراج اقتصادي. لكنّ يبقى انّ اهمّ ما قام به إبراهيم عبّود يتمثّل في انهاء الخلاف مع مصر على منطقة حلايب.

تسلّم إبراهيم عبّود السلطة من رئيس للوزراء هو عبدالله خليل وجد نفسه في مأزق سياسي واقتصادي. كانت هناك خلافات لا تنتهي بين الأحزاب وحتّى داخل كل حزب وكان هناك غياب لاي خطة اقتصادية تستطيع اخراج السودان من ازمته الاقتصادية. لم يجد عبدالله خليل من حل سوى تسليم السلطة للعسكر فاتحا الأبواب امام سلسلة من الانقلابات العسكرية كان آخرها في العام 1989، وهو الانقلاب الذي أوصل عمر حسن البشير الى الرئاسة بدعم من حسن الترابي الذي كان يمثّل الاخوان المسلمين والذي كان يعتقد ان في استطاعته استخدام البشير غطاء لاطماع الاخوان.

كمّم إبراهيم عبّود الافواه وضيّق على الحياة الحزبية، بل الغاها. في العام 1964، نزل السودانيون الى الشارع في ثورة حقيقية. هتفوا صوتا واحدا "الى الثكنات يا حشرات". انكفأ العسكر وعادوا بالفعل الى ثكناتهم مفسحين في المجال لرجال السياسة في السودان كي يعودوا الى المناكفات في انتظار انقلاب جديد كان خلفه جعفر نميري ورفاقه في العام 1969. انتقل السودان من كارثة الى أخرى في عهد النميري، خصوصا بعدما اكتشف الأخير فوائد المتاجرة بالدين واستعان بالاسلاميين الذين كانوا يعدون نفسهم لتولي السلطة.

مرّة أخرى، برز في العام 1985 رجل عسكري اسمه عبد الرحمن سوار الذهب. تسلّم السلطة، على رأس مجلس عسكري، وما لبث في العام 1986 ان اعادها الى المدنيين. لكن سياسيي السودان لم يتعلّموا شيئا من تجارب الماضي. بين العامين 1986 و1989، كرّر سياسيو السودان وقادة احزابه كلّ أخطاء الماضي واوصلوا البلد مرّة أخرى الى الإفلاس. استطاع الحلف العسكري - المدني القائم بين البشير والترابي الوصول الى السلطة بسهولة وبدأت منذ ذلك الحين صراعات داخلية كان الجانب الأبرز فيها اعتقاد حسن الترابي ان في استطاعته استخدام البشير أداة في خدمة الاخوان وفي خدمة مشروع يتجاوز حدود البلد ان في اتجاه مصر او في اتجاه دول أخرى على البحر الأحمر.

بين 1989 و2019، تاريخ اندلاع ثورة شعبية حقيقية ليس معروفا هل بعد كيف ستنتهي، مارس عمر حسن البشير كلّ المناورات التي يستطيع سياسي محنّك ممارساتها. كان ضحيّة تلك المناورات السياسيون الذين استخفّوا بالرجل القادر على طرد أسامة بن لادن من السودان وتسليم "كارلوس" الى فرنسا... والدخول في مفاوضات مع الجنوبيين من اجل تقسيم السودان. حصل ذلك بالفعل في العام 2011.

في كلّ مرّة كان على البشير دفع الثمن المطلوب للبقاء في السلطة، كان يفعل ذلك بغض النظر عن قيمة هذا الثمن. اكتشف كلّ الذين تعاملوا مع البشير انّه رجل عملي لا عقدة من ايّ نوع لديه، لا عقدة تجاه سجن الترابي والتلويح باعدامه، لولا تدخّل علي عبدالله صالح مرتين من اجل انقاذ حياة الرجل... ولا عقدة التعاطي مع إسرائيل. وجد أخيرا ان عليه الذهاب الى دمشق ليكون اول رئيس عربي يلتقي بشّار الأسد المرفوض من شعبه، وذلك منذ اندلاع الثورة السورية في مثل هذه الايّام من العام 2011. كانت تلك الزيارة اشبه بلعنة حلّت عليه. عاد الى الخرطوم من دمشق ليجد ثورة شعبية في انتظاره.

نجد الرئيس السوداني هذه الايّام يتحرّك في كلّ الاتجاهات. ذهب الى الدوحة والى القاهرة. يعتقد انّ في استطاعته استخدام الخلافات بين دول الخليج وقطر لمصلحته وانّ في استطاعته الحصول على دعم مصري في الوقت ذاته!

تشير التصرفات الأخيرة لعمر حسن البشير الى نوع من الإفلاس وتطرح أسئلة من نوع هل خلت جعبته من أفكار جديدة تبقيه في السلطة؟

بعد ثلاثين عاما في السلطة، لماذا لا يقدم الرئيس السوداني على خطوة من نوع الانتقال بالبلد الى مرحلة انتقالية بعدما نضبت لديه كلّ الحلول التي يستطيع تقديمها للشعب؟ تشمل هذه الحلول بطبيعة الحال الاستعانة بسودانيين من ذوي الخبرة يعرفون بالاقتصاد وكيفية استغلال ثروات البلد بدل اللجوء الى بهلوانيات سياسية من عصر آخر.

باختصار شديد، لماذا لا يستعيد ذكرى ثورة 1964 على حكم العسكر والطريقة الحضارية التي سلّم بها سوار الذهب السلطة في 1986. الا يستحق السودان مفاجأة سعيدة ثالثة توفّر مزيدا من الدماء؟