لماذا يرفض الحوثي التراجع؟

الحوثيون يعملون على دغدغة المشاعر العربية بدعوى نصرة الشعب الفلسطيني.

يستغرب الكثيرون نبرة التحدي والمواجهة والإصرار التي تتبناها جماعة "الحوثي" اليمنية التي تصر على مواصلة تهديد حركة التجارة العالمية، ويرهنون التوقف عن إطلاق الصواريخ والمسيرات في البحر الأحمر ومضيق باب المندب بإنهاء الحصار على غزة. وبلا شك أن سلوك هذه الجماعة يتسق تماماً مع أهدافها من هذا التصعيد الذي يبدو في ظاهره "نصرة لأهالي غزة"، وفي باطنه أسرار عميقة ترتبط جميعها بمصالح جماعة "الحوثي" ومموليها ورعاتها الاقليميين.

فكرة تحدي الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين هي بحد ذاتها أحد سمات السلوك الميليشياوي لما يعرف بـ "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، وهي فكرة عاطفية تدغدغ مشاعر الشعوب وبالأخص من مؤيدي إيران وأذرعها الاقليمية، التي ترى في تشكيل التحالف الدولي البحري المعروف بـ"حارس الازدهار" انتصاراً لها بغض النظر عن أي شيء آخر. فهذه الميليشيات الارهابية تتصرف كعصابات ولا تفكر في مصالح دول أو شعوب، ولذا فإنه بمجرد أن أعلنت الولايات المتحدة عن هذا التحالف، فقد بادر الحوثيون إلى السخرية من الإعلان الأميركي، وأشار المتحدث باسم الجماعة إلى أن أي هجوم أميركي مباشر على اليمن يعني تلقائياً توسيع نطاق الحرب في غزة وتحويله إلى "كارثة عالمية".

جماعة الحوثي تدرك، من واقع ارتباطها بإيران، أن إدارة الرئيس بايدن لا ترغب مطلقاً في توسيع نطاق الحرب في غزة، أو التورط في جبهة صراع شرق أوسطية في عام انتخابات الرئاسة الأميركية، بكل ما يعنيه ذلك من انهاء حتمي لفرص الرئيس بايدن في الفوز بولاية رئاسية ثانية، ناهيك عن الصعوبة التي تواجه أي تفكير في فتح صراع جديد بخلاف أوكرانيا وغزة، مع ما يستدعيه ذلك من احتياجات عسكرية وتمويل مادي كبير قد لا يسهل توافره في الظروف الحالية. ولذلك فإن الجماعة تتمادى في التحدي ثقة منها في غياب إرادة الردع الأميركي الفعلي.

الواقع يقول إن تهديدات الحوثي باتت تمثل معضلة حقيقية للاقتصاد العالمي وليس فقط الاقتصاد الإسرائيلي، حيث أوقفت شركات نقل نفط دولية كبرى مثل BP وشركات شحن كبرى، وأبرزها "ميرسك" عبر الناقلات والسفن التابعة لها في البحر الأحمر بسبب تعرض السفن المتواصل لقصف وتهديدات الحوثيين، ما بات يمثل تهديداً لحرية الملاحة وحركة التجارة المارة بهذا الممر الملاحي الحيوي.

بلا شك أن جماعة الحوثي تستهويها الأضواء التي سلطت عليها في الآونة الأخيرة، حيث باتت أخبار أنشطتها غير المشروعة تتصدر نشرات الأخبار العالمية، كما بات قادتها ضمن أبرز الفقرات الإخبارية عالمياً، وهذا بحد ذاته يمثل مكسباً دعائياً للجماعة التي ترغب في بسط هيمنتها على اليمن وانتزاع شرعية دولية لحكم البلاد، أو على الأقل جزءاً منها، وبالتالي فإنها ترى في مثل هذه الأدوار الملتبسة إقليمياً انتزاعاً لاعتراف بأهميتها وقدرتها على زعزعة الأمن والاستقرار، فضلاً عن دغدغة مشاعر الشعوب العربية وكسب تعاطفها تمهيداً لترسيخ فكرة وجودها حكومة شرعية معترف بها في اليمن.

الحوثيون يريدون أيضاً ربط أنفسهم بالقضية الفلسطينية التي يدركون مركزيتها الشديدة في الوعي الجمعي العربي، ولاسيما في ظل محدودية هامش الحركة المتاح أمام الحكومات العربية، التي وجدت نفسها فجأة في مواجهة واقع صراعي معقد وشديد الخطورة فرضته حركة "حماس" الفلسطينية على الجميع إقليمياً ودولياً، ولذا فإن الحوثي، بحكم كونهم ميليشيا عقائدية تمتلك قدرة كبيرة على التصرف برعونة بعيداً عن حسابات الدول والحكومات الرسمية، قد استغل هذا الواقع الاقليمي والدولي المهترئ في محاولة فرض كلمتهم، وترسيخ دورهم كلاعب فاعل ضمن معادلات الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ناهيك عن رغبة الحوثيين في تعزيز موقفهم في مفاوضات السلام التي بدأت منذ فترة مع المملكة العربية السعودية، حيث ترغب المملكة بالتأكيد في تبريد الأجواء إقليمياً وتهيئة الظروف لتحقيق الأمن والاستقرار وتفادي أي توترات قد تؤثر سلباً ولو بدرجة صغيرة في وتيرة تنفيذ مشروعات التنمية السعودية الطموحة ضمن رؤية 2030.

يمكن فهم الحملة الشعبية التي نظمتها جماعة "الحوثي" لتجنيد وتدريب اليمنيين من أجل القتال في الأراضي الفلسطينية "إن توافرت الظروف لذلك"، حيث أعلنوا عزمهم إرسال مقاتليهم إلى غزة، في خطوة يدركون تماماً صعوبة تحققها، ولكنها تمثل إشارة إلى احتمالات توسع نطاق الصراع، وتجييشاً للعواطف وتأجيجاً لمشاعر الشعوب العربية، وبالأخص الشعوب الواقعة على الحدود مع الأراضي الفلسطينية كما في حالتي مصر والأردن، ناهيك عن الدلالات الرمزية لمثل هذه الدعاوى الحوثية فيما يتعلق بالمواقف الاقليمية ولاسيما على سعيها توظيف هذه المواقف من جانب تنظيمات الارهاب والتطرف في الدعاية والمتاجرة إعلامياً وتشويه سمعة بقية الدول العربية والإسلامية بترديد مزاعم واتهامات وأكاذيب ضدها في محاولة لإحراجها والتأثير في مواقفها وسياساتها لمصلحة هذه التنظيمات والجماعات، التي لا ترغب مطلقاً في تحقيق السلام بل تقتات على مخططات الفوضى ونشر الاضطرابات إقليمياً ودولياً.