لن تتحمل الصحافة صدمة انتخابية


الوثوق باستطلاع الرأي أكثر مما ينبغي علّم الصحافة الدرس الأقسى في تجربتها، ورفع من درجة حساسيتها وهي تصنع قصتها عن دونالد ترامب وجو بايدن.
ثمة درس سياسي تقدمه الانتخابات الأميركية أكثر من الدرس الديمقراطي، الأمر الذي يشغل الصحافة ويثير اهتمامها.

لم يشعر الصحافيون والمعلقون بالقلق والتشويش مثلما يحصل اليوم وقبل أيام من انتخابات الرئاسة الأميركية في الثالث من نوفمبر المقبل.

الوثوق باستطلاع الرأي أكثر مما ينبغي علّم الصحافة الدرس الأقسى في تجربتها، ورفع من درجة حساسيتها وهي تصنع قصتها عن دونالد ترامب وجو بايدن. لا تريد الصحافة أن تنخدع باستطلاعات الرأي مرة أخرى، وإن كانت من كبرى المؤسسات البحثية.

انتخابات الرئاسة الأميركية ليست شأنا محليا أميركيا، لأن تداعياتها ستمس العالم برمته وبوجود ترامب تحولت القصة إلى تلفزيون واقع يدار من قبل رئيس يختلف بشأنه العالم كما لم يحدث مع أي رئيس أميركي سابق.

ثمة درس سياسي تقدمه الانتخابات الأميركية أكثر من الدرس الديمقراطي، الأمر الذي يشغل الصحافة ويثير اهتمامها. استطلاعات الرأي كانت خادعة في انتخابات سابقة وعلمت الصحافيين الدرس الأهم منذ هزيمة هيلاري كلينتون وفوز حزب المحافظين في بريطانيا بقيادة بوريس جونسون.

كانت السفارات الأميركية في العواصم الكبرى تفتح صالاتها أمام الصحافيين حتى الفجر لمتابعة نتائج الانتخابات السابقة، فهناك على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، من لا يفضل النوم عندما يكون الأميركيون مشغولين بالتصويت، لأن نتيجة انتخابات هذا العام ستكون صدمة سواء بفوز أو هزيمة ترامب! لذلك تبدو القصة صحافية بامتياز في جميع أنحاء العالم.

صحافية بريطانية على درجة من الأهمية مثل سوزان مور، فضلت أن تتأمل أكثر مما تحلل وهي تكتب عن الانتخابات، متسائلة عما إذا كان المرء سيوصف بالمتهور وهو يعبر عن رغبته بهزيمة ترامب!

تتخيل مور اليوم التالي للانتخابات وتكتب “إذا فاز ترامب هل سيتمكن أي شخص من النهوض من فراش النوم؟”.

وتقول “ما زلت أحاول معرفة المكان الذي سأكون فيه في تلك الليلة، ويبدو الأمر بسبب إجراءات الإغلاق، كما لو أنني لن أكون قادرة على أن أكون حيث أريد ومع من”. هذا تعبير صحافي عن القلق تعترف به سوزان مور من دون مواربة.

فرق الوقت بين الولايات المتحدة والعالم قصة صحافية، فعندما يكون العالم نائما في الجهة الأخرى من الكوكب يعيش أحلامه أو كوابيسه في الثالث من نوفمبر، تكون المدن الأميركية إما ترقص احتفالا وإما تعيش نكبة جديدة لأربع سنوات أخرى، تلك المفارقة ستتكرر بدرجة متفاوتة في دول أخرى، وهنا تكمن أهمية القصة بالنسبة للصحافة غير الأميركية. لأنه سيتم تحديد الفائز ليس في صناديق الاقتراع وحدها، هناك وسائل التواصل الاجتماعي وثمة ما هو أكثر على الهواتف الذكية، وسائل الإعلام الرقمي ربما من يحدد الفائز هذا العام، لذلك شكك ترامب بديمقراطية بلاده العريقة مذكرا بالمحاكم!

صحف كبيرة أطلقت السؤال المخيف عما إذا كانت وسائل الإعلام الرقمية ستكون أكثر أهمية من صناديق الاقتراع عندما تتلاعب بمزاج المصوتين! وهذا سبب كاف يجعل الصحافة لا تعول هذه المرة على استطلاعات الرأي في كل ما تنشره عن الصراع المثير لترامب مع أربع سنوات رئاسية أخرى. ذلك ما دفع أيضا قيادي في الحزب الديمقراطي إلى اعتبار استطلاعات الرأي مجرد سراب لا يمكن الاعتماد عليها.

جملة إن صحة الاقتراع مرتبطة في نهاية المطاف بصحة الديمقراطية. ستتكرر كثيرا في ما تنشره وسائل الإعلام، لكن الفائز هذا العام لن تحدده صناديق الاقتراع وحدها، بل محكمة الرأي العام وهذا ما تعول عليه نسبة كبيرة من الآراء المنشورة.

الصحافة أمام مسؤولية مهنية وهي لا تخفي تحزبها لترامب أو لبايدن، بينما يتواصل ضغط الجمهور عليها لتقديم نتائج تحليلية سريعة عن الفائز قبل إعلانه. ذلك الاختبار الأصعب الذي تمر به وسائل الإعلام في تاريخ الانتخابات التي تقود الفائز إلى البيت الأبيض.

صورة الفائز ليست واضحة كما كانت استطلاعات الرأي تعلن عنه قبل فتح صناديق التصويت. هناك ما هو أكثر من استطلاعات الرأي وهذا سبب كاف يجعل من إدارة فيسبوك مثلا تتحدث عن ضبط إستراتيجيتها وفرض قيود على النشر خصوصا يوم التصويت. فيما تعمل إدارة تويتر بلا هوادة لتطبيق سياسات جديدة، استعدادا لليلة انتخابات معقدة، وربما فوضوية.

يكفي تخيل الوضع الصعب الذي يواجهه موقعا فيسبوك وتويتر، مع الجدل الذي رافق حذف مقال مثير حول بايدن قبل يومين.

وسبق وأن عبر مارك زوكربيرغ مدير فيسبوك عن اعتقاده بوجود مخاطر متزايدة من حدوث اضطرابات مدنية في الفترة ما بين إجراء التصويت وإعلان النتيجة.

يقول بيل مارسيلينو أستاذ العلوم السلوكية في تقرير نشرته مؤسسة راند الأميركية “في ضوء التهديدات التي تعرضت لها الانتخابات في الماضي، من

الممكن أن تحاول أطراف فاعلة خارجية مرة أخرى التأثير على الحملة السياسية الأميركية لعام 2020 عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي”.

هناك “جنون مطلق” يرافق الانتخابات الأميركية تشترك فيه وسائل الإعلام بدرجات مختلفة، إذ لا يمكن أن يقع اللوم على ترامب وحده، بل هناك اندفاع للتأثير على الديمقراطية، لذلك سيكون فجر الثالث من نوفمبر الأكثر أهمية في التاريخ السياسي المعاصر. وهذا ما تعتبره ريبيكا ليسنر، المؤلفة المشاركة في كتاب “عالم مفتوح” الذي يتحدث عن النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين. إن ديمقراطية الغرب على المحك.

وتقول ليسنر “هذه الانتخابات ستحدد الكثير من مستقبل الولايات المتحدة والعالم، لم تقل حملة ترامب سوى القليل جدا عن نواياها، وأظهرت أقصر بيان في سجلات السياسة الأميركية”.

التحدي الحقيقي أمام القادم للبيت الأبيض هو تشكيل إجماع سياسي جديد يدوم لفترة رئاسية واحدة وهو تحدّ مضاعف أيضا أمام وسائل الإعلام. فمثل ذلك لم يحدث في ولاية ترامب، وأظهر أن الأميركيين مختلفون أكثر في ما بينهم، وانعكس هذا الاختلاف على العالم برمته كما عمل ترامب على مزاعمه باعتبار الصحافة ليست الطريق المثالي لديمقراطية حرة من تبادل المعلومات مشككا ومثيرا المزيد من الشكوك بحق الصحافة التي تعيش زمنا ليس عادلا بحقه.

وهكذا تضع انتخابات الثالث من نوفمبر أمورا كثيرة على المحك تتقدمها السياسة فيما تتبوأ الصحافة درجة متقدمة فيها.