لو يكف العرب عن الحديث في السياسة
ليس صحيحا ما يُقال عن خبرة الإنسان العربي العادي بالسياسة. يمكننا القول إنه في كل ما يقوله في ذلك المجال يجسد شخصية الضحية التي تعرضت لحملة تلقين منظمة، بحيث صارت تردد ما قيل لها مقتنعة من أنه كلامها. وهي الدرجة الأسوأ في ما يمكن أن تصل إليه عمليات التلقين من نتائج مدمرة للقدرة عل التفكير.
واقعيا فإن الإنسان العربي لا يفهم شيئا في السياسة. لا لشيء إلا لأن كل ما يحيط به يقع خارج مفهوم السياسة بالمعنى الحقيقي. وإذا ما توهم أحد ما أنه سياسي بالسليقة فإن ذلك تعبير مجازي عن عدم فهم ما الذي يعنيه أن يكون المرء سياسيا في عالم تتغير فيه المعاني بسرعة لافتة تبعا لتغير الأحداث، بحيث لا تكون الأخبار العاجلة سوى تعليق هامشي على ما لم يعد مؤثرا من الاحداث.
وهنا بالضبط ين سر تخلف الخطاب السياسي العربي.
فهو خطاب يتعلق بما مضى من الاحداث التي جرى تجاوزها.
ولأن الخلط بين ما هو سياسي وما هو عاطفي ممكن بالنسبة لشخص تتحكم به الغريزة فقد كان اقبال الجماهير العربية عبر نصف من قرن من الزمن على سماع خطابات الساسة العرب وترديد أقولهم باعتبارها مقولات مأثورة أمرا طبيعيا لا يمكن استنكاره أو إغفاله.
وهو ما سمح للعسكر وللمغامرين العقائديين في أن يتصدروا المشهد باعتبارهم سياسيين من نوع مختلف. وفي ظل شعار "الشرعية الثورية" تم وضع القطار على السكة الخطأ لنكتشف بعد عقود أن تلك السكة لم تكن إلا وهما وأنها لم تكن موجودة. ذلك لأنها كانت قائمة على أساس استبعاد المفهوم التقليدي للسياسة واتباع أسلوب "أنت تسأل والحزب يجيب" فالحزب يعرف كل شيء.
وإذا ما كان علينا أن نلتفت اليوم إلى ما عشناه من تقلبات السياسة فإنها لم تكن بالنسبة للعسكر والحزبيين الذين حكموا في العالم العربي عبر أكثر من نصف قرن سوى لعبة كلمات متقاطعة بلغة لم يكن يجيدونها.
كان هناك شيء اسمه "كاريزما الحاكم" خلقه الخوف لدى الشعب من النظام الذي ارتبطت طريقة حكمه بالعنف.
فجمال عبدالناصر كانت لديه كاريزما.
وحافظ الأسد هو الآخر يمتلك كاريزما.
اما صدام حسين فقد كان الكاريزما تمشي على قدمين.
كان المقصود بتلك الصفة القدرة على التأثير على الآخرين. وكان ذلك التأثير بالنسبة لأولئك الحكام أمرا طبيعيا في سياق العنف المجاني الذي مورس في حق المجتمع.
لم تكن تلك الكاريزما موجودة لأسباب سياسية.
وهو ما لم تفهمه شعوب لم تتعرف على السياسة باعتبارها تصريفا لشؤونها وعلاقاتها مع الآخرين في سياق القانون.
فتلك الشعوب التي كانت علاقتها بالقانون مشوشة وهشة لم تكن على استعداد للتفريق بين ما هو سياسي وما هو اجتهاد شخصي قد يؤدي إلى التهلكة بسبب تعارضه مع القوانين الدولية.
لذلك فقد غمرتنا اجتهادات العسكر والحزبيين في بحر من الأخطاء الذي لم ننجُ منه إلا بعد تقديم تنازلات فادحة، كان أصعبها أن تفقد دول استقلالها مثلما حدث للعراق وأن تضيع البلاد في حرب أهلية مثلما حدث لليبيا وسوريا وأن تنكسر بوصلة المواطنة ين مطرقة الدين وسندان المجتمع المدني كما هو الحال في تونس.
وبالرغم مما جرى من زلازل فإن الإنسان العربي لا يزال يغرد مثل بلبل فصيح بكلام، يظن أنه التجسيد الأمثل لخبرته في عالم السياسة.
لقد فشل العرب في السياسة. تلك هي خلاصة أكثر من خمسين سنة من الهراء الذي اعتبروه نوعا مبتكرا من الفهم السياسي وما كان يمت لعالم السياسة بصلة. كانت هزائمهم تجسيدا لذلك الفشل.
لا يزال من الصعب عليهم أن يعترفوا بذلك الفشل، على الأقل من خلال الكف عن الحديث في السياسة وذلك أضعف الإيمان.
ولكن إن لم يتحدث العربي في ما يظنه سياسية فإن ذلك يعني أن ليه أن يصمت بعد أن أضاع الاهتمام بشؤون حياته الواقعية منهمكا في السياسة.