
ليبيا دماج تتبّع المِلكية في اليمن القديم دولة ومعبدًا وإنسانًا
يعد موضوع المِلكيّة موضوعًا متشابكًا ومعقدًا في شتى جوانبه، فهو الموضوع الذي كان ولا يزال محور الحياة منذ بدء الخليقة إلى ما شاء الله؛ لأن حب التملك طبيعة أصيلة في الإنسان، فلأجل المِلكية اعتدى الإنسان على أخيه الإنسان، وبسببها نشبت الحروب، التي نتج عنها تغيير مستمر في النواحي السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية ولم يكن الأمر مقتصرًا على منطقة معينة، وإنما شمل العالم بأسره، منذ كانت المِلكية مشاعًا إلى أن ظهرت المِلكية الخاصة، التي كانت أساسًا لنشوء الدولة في العالم بفترات مختلفة. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب "الـمِــلْـكِــيَّـة في اليمن الـقديم دراسة تطبيقية على دولة سبأ" للباحثة اليمنية د.ليبيا عبد الله دماج التي تناولت بالتحليل موضوع المِلكية في اليمن القديم انطلاقا من كون المِلكية ترتبط بشتى جوانب الحياة، فكما هي عماد الاستقرار والتوسع في أية منطقة في العالم قديمًا وحديثًا، وأساس لنشوء الدولة فيها، فهي أيضًا رابط متين وقوي بين الجوانب الحياتية الأخرى كالاقتصاد والدين، والمجتمع؛ ولذلك ظلت المِلكية ودراستها هدفًا للباحثين في الاقتصاد والاجتماع، والتاريخ أيضًا.
تقول دماج في مقدمة كتابها الصادر عن مؤسسة أروقة أن "الحضارة اليمنية القديمة قدمت كإحدى أهم الحضارات في العالم القديم، والتي كانت انعكاسًا لتضافر عوامل عدة، تدعم كل منها الأخرى؛ لتشكل الأنموذج الأروع في شبه الجزيرة العربية، وإحدى أعظم حضارات الشرق الأدنى القديم. وكان ظهور الزراعة وتطورها والتجارة يُعدان من أهم ركائز تلك الحضارة وتجليها بتلك الصورة الجميلة المشرقة، والتي دلت عليها آثارها وما احتوته نقوشها من مواضيع تتناسب مع ذلك التطور، وما نتج عنها من عوامل أخرى- كظهور المِلكية وسن القوانين المحددة لها، والعاملة على حفظ الحقوق والمِلكيات، بكافة أنواعها، دون النظر إلى المكانة أو التراتب الطبقي، قد أبرزت التكامل بينها، وكل ذلك قد انعكس على الحياة العامة، فنجد تطورًا ملحوظًا في الفكر الديني، والفن بكافة أنواعه كالفن المعماري والهندسي، وفن النحت، وغيرها من الفنون".
وتلفت إلى أن اليمن عُرفت بأنها دولة زراعية في المقام الأول، حيث استطاعت أن تستغل أكبر قدر من مساحتها الجغرافية كأراض زراعية، منذ زرع الفلاح اليمني المرتفعات والهضاب إلى جانب الأودية الكثيرة ومخارجها عند أطراف الصحراء، وأدى ذلك إلى الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية. وقد ظهر نظام المِلكية الزراعية بشكليه العام والخاص بصورة جلية وواضحة؛ ما أدى إلى الحفاظ على تلك المِلكية والاعتناء بها، سواء كأراض أو محاصيل زراعية بمختلف أنواعها، وبكل ما يتعلق بها من منشآت مائية ومخازن، وحيوانات.ولم يكتفِ اليمني بامتلاك كل ذلك بل تعدت ملكيته إلى أشياء أخرى كالمباني المعمارية، وملحقاتها، كالأسوار والأبراج. بل حتى إلى ما يهمه دينيًا بتملكه المكان الذي ستنتهي فيه حياته (قبره) وتبدأ معه الحياة الأخرى.
وتوضح دماج نقوش المسند والزبور أثبتت أن المِلكية كانت من أهم المواضيع التي تناولتها تلك النقوش، حيث احتل موضوع مِلكية الأراضي الزراعية ومنشآتها الحيز الأكبر فيها، وسردت معلومات تاريخية مهمة عن كيفية تملك تلك الأراضي ومنشآتها المائية، بالإضافة إلى تملك الحيوانات والمحاصيل الزراعية، ومعلومات كثيرة عن القصور والأسوار ومالكيها، وما تتعرض له من تدمير، وغيرها من المعلومات. كما أن العديد من النقوش التي تناولت القوانين والعقوبات، والنقوش الدينية بمواضيعها المختلفة، كالهبات والنذور وغير ذلك، توضح لنا أنواع مِلكيات أخرى كالقبور والمنشآت والمباني، وغيرها مما امتلكه اليمني في تلك الحقبة من الزمن.ونظرًا لأهمية ما كان لدى اليمني من مِلكيات متنوعة وقيمة فإنه قد وضع كل ذلك تحت حماية المعبودات، موثقًا فيما تركه لنا من نقوش مختلفة المضمون والصيغة. كما أن النقوش وثقت لنا المِلكية بصورة مباشرة، كوثائق البيع والشراء أو بطريقة غير مباشرة ضمن موضوعات أخرى، حاولنا استنطاقها لمعرفة المزيد عما تملكه المعبود وكذا الإنسان اليمني، وكيفية ذلك.
وتعتمد دماج في كتابها لتحديد مِلكية الدولة السبئية، دولة ومعبدًا وإنسانًا، على فهم ما ورد في النقوش المسندية والخشبية في الإطار التاريخي والاجتماعي والاقتصادي، دون التقيد بالاشتقاق اللغوي. كما تعتمد على ما تم الكشف عنه من الآثار السبئية، وأيضًا على المقاربة المكانية في تحديد بعض المِلكيات غير الموثقة في النقوش المسندية الخاصة بمملكة سبأ، بالإضافة إلى المقاربة الموضوعية لمعرفة ما كان عليه الأمر من خلال ما ورد أو ذكر من معلومات حاولت الباحثة من خلالها تقصي الوقائع، التي بدورها تم الاستدلال من خلالها على وجود المِلكيات المختلفة.
وترى أن المهتمين قد يختلفون بشأن تحديد أشكال المِلكية في اليمن القديم؛ ومن ثم جعلت المعيار الأساسي الذي يحدد شكل المِلكية في المقام الأول، هو الطرف المستفيد من مردود موضوع المِلكية، سواء كان ريعًا للأراضي الزراعية أو عقارًا، وغير ذلك من مِلكيات. كما أنها لم يتقيد في الكتاب بالنقوش التي تضمنت ألفاظ المِلكية فقط، فعددها محدود، وإنما عمد إلى قراءة ما وراء النصوص وسبر مقاصدها، لمعرفة ما لم يوثقه اليمني القديم من مِلكيات كثيرة ومهمة في مجتمعه آنذاك.

تتناول دماج دولة سبأ بمفهومها الواسع، الذي يجمع بين دولة سبأ التقليدية التي كانت عاصمتها مأرب، ودولة حمير التي حمل ملوكها لقب ملك سبأ وذو ريدان، واعتبروا دولتهم امتدادً لدولة سبأ، خصوصًا بعد أن تمكنوا في نهاية صراعهم مع السبئيين في مأرب من ضم الدولة السبئية إلى دولتهم، ومن ثم دولة حضرموت وأصبحت دولتهم في عهد التبابعة بمثابة الدولة الوحيدة في جنوب جزيرة العرب من أواخر القرن الثالث الميلادي حتى سقوط تلك الدولة على يد الأحباش مطلع القرن السادس الميلادي.
وتؤكد أهمية موضوع الدراسة يتشكل في ناحيتين، أولهما أنها تُعد أول دراسة لهذا الموضوع، فالصعوبة التي يكتنفها جعلت الباحثين يتهيبون خوض غمار البحث فيه. الناحية الثانية: أن موضوع المِلكية كان ولا يزال من أهم الموضوعات التي تثير اهتمام الباحثين؛ كونها تُعد أساسًا لجوانب الحياة الأخرى في أي دولة، فهي المحددة للجانب الاقتصادي الذي يُعد عمود الدول واستقرارها، كما أن لها الأثر الكبير في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية. ودراسة هذا الموضوع ستسهم في فهم تلك الجوانب بصورة واضحة؛ ولذا نجد أن الباحثين في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ قد سلطوا الضوء عليه، وخرجوا بنظريات ونتائج عدة، محاولين من خلالها معرفة ماهية المِلكية منذ نشأتها إلى وقتنا الحاضر.
وتتابع أن تلك الأهمية كانت أساسًا لاختيار موضوع المِلكية في اليمن القديم، فهو محاولة لإبراز الوجه الحضاري لتلك الحضارة، التي لا تقل أهمية عن حضارات الشرق الأدنى القديم. فقد ظهرت المِلكية فيها في كافة جوانب الحياة، وكانت من أهم المواضيع التي تناولتها النقوش المسندية والخشبية (الزبور)، إما بشكل مباشر أو في سياقات مختلفة، كالحروب وما نتج عنها من امتلاك وتقسيم للأراضي وما تحمل على ظهرها من محاصيل أو أفراد، والتي تم الاستيلاء عليها بعد انتصار مملكة على أخرى، وإعادة تقسيمها لأكثر من مرة. بالإضافة إلى ما ذكرته النقوش من تشريعات قانونية، التي سنها اليمنيون؛ للحفاظ على تلك المِلكيات - العامة والخاصة - وعدم التعدي عليها، وفرضهم العقوبات على ذلك. أضف إلى ذلك معلومات مهمة احتوتها النقوش الدينية والاجتماعية، والتي قد يستدل منها على مِلكية الأرض وما عليها من إنسان، ونبات ومنشأة.
وبناء على أهمية الموضوع كان من بين أهداف دماج في الكتاب أولا المساهمة في إبراز الوجه الحضاري المشرق للحضارة اليمنية القديمة. ثانيا التعرف على المِلكية الزراعية سواء العامة كمِلكية الدولة أو الشعوب (القبائل)، أو الخاصة بطبقة معينة كالملوك والأقيال والمعابد، وكذا الخاصة بالأفراد من عامة الناس. ثالثا تتبع كيفية امتلاك الأراضي الزراعية ووضع الحدود لها، وفهم كيفية التصرف بها، بالإضافة إلى معرفة الجهات المالكة لها. رابعا معرفة أنواع المنشآت المائية، والجهات المالكة لها، بالإضافة إلى توضيح كيفية توزيع المياه على الأراضي الزراعية والقوانين الخاصة بذلك، وكذا معرفة من هم القائمون على ذلك. خامسا التعرف على ما تمتلكه الدولة والشعب والمعابد من ثروات حيوانية مختلفة، وكيفية تملكها، وكذا استخداماتها المتعددة والمختلفة، سواء في الزراعة أو التجارة، كالخيل والجمال، وغيرها. وتتبع المِلكيات الخاصة للثروة الحيوانية التي قد تكون ملكًا لأفراد أو مجموعات من الناس تنحدر من أسرة واحدة أو اتحاد قبلي واحد. سادسا دراسة مِلكية الدولة والمعابد والأفراد للعبيد والإماء، بالإضافة إلى مسمياتهم المختلفة في النقوش اليمنية القديمة، مع محاولة معرفة كيف تم امتلاكهم، ومن أين؟ وكذا كيفية التعامل معهم؟. وإلقاء الضوء على القصور المهمة في تاريخ دولة سبأ، العائدة مِلكيتها إليها، والتي كانت تدار فيها شؤون الدولة، وتقر فيها القوانين، إضافة إلى ذلك معرفة مِلكية الأقيال وقبائلهم للقصور الخاصة بهم. والتعرف على ما يمتلكه الأفراد والجماعات من مِلكيات خاصة كالبيوت والمخازن والقبور، وغير ذلك مما يتعلق بهذه المِلكيات.
وتقسم دماج كتابها إلى ستة فصول الأول "التطور التاريخي لدولة سبأ وامتدادها الجغرافي"، ومن خلاله نتعرف على نشوء دولة سبأ وعصورها التاريخية المختلفة منذ ظهور اللقب الملكي منذ نشأة الدولة الحميرية في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي. بالإضافة إلى نبذة مختصرة عن المِلكية في الحضارات الأخرى، وحصر الألفاظ الخاصة بالمِلكية بمختلف أنواعها، والتي وردت في النقوش المسندية والخشبية. والثاني "مِلكية الأراضي الزراعية ومنشآتها المائية"، وفيهتم التطرق إلى وضع الحدود للأراضي الزراعية، وكيفية التصرف بها، كما تتبع بالتفصيل المِلكية الزراعية، سواء المِلكية العامة كمِلكية الدولة والشعوب "القبائل"، أو الخاصة بطبقة الأعيان والملوك والمعابد والأفراد من عامة الناس. بالإضافة إلى تتبع أنواع وسائل الري المختلفة، وكذا مِلكيتها العامة والخاصة، بالإضافة إلى القوانين المتعلقة بها، وبتوزيع المياه على الأراضي الزراعية وكيفية ذلك، وكذا معرفة من هم القائمون على توزيع المياه، وكم مدة تولي هذا المنصب.
أما الفصل الثالث "المِلكية التجارية" فقد تضمن توضيحا لما تمتلكه الدولة والمعابد والجماعات والأفراد من سلع زراعية أو صناعية، وذلك عن طريق جمع ما ورد ذكره في نقوش المسند والزبور وكذا ما تم الكشف عنه أثريًا من معلومات للاستدلال على ذلك. بالإضافة إلى معرفة الأماكن التي يتم فيها خزن وبيع تلك السلع بمختلف أنواعها "محلات وأسواقًا"، ولمن تتبع ملكيتها. ويوضح الفصلالرابع "مِلكية الثروة الحيوانية" ما تمتلكه الدولة والشعب والمعابد من ثروات حيوانية مختلفة، وكيفية تملكها. كما تطرق إلى لاستخداماتها المتعددة والمختلفة، سواء في الزراعة أو التجارة، كالخيل والجمال، وغيرها. كذلك تتبع المِلكية الخاصة للثروة الحيوانية التي قد تكون ملكًا لأفراد أو مجموعات من الناس تنحدر من أسرة أو اتحاد قبلي.
وتخصص دماج الفصل الخامس "ملِكية العبيد والإماء" لمناقشة مِلكية الدولة والمعابد والأفراد للعبيد والإماء، بالإضافة إلى دراسة مسمياتهم المختلفة في النقوش اليمنية القديمة، والآراء المختلفة حول معاني تلك الألفاظ الواردة في النقوش المسندية والخشبية. بالإضافة إلى إيراد معلومات عن وضع العبيد والإماء في بلدان الشرق الأدنى؛ كي نتعرف على الفروق بين وضعهم في اليمن القديم وتلك البلدان، كما أنه قد وضح كيفية امتلاكهم، ومن أين، وكيفية معاملتهم؟ وكذا كيفية التعامل معهم. وفي الفصل السادس والأخير "مِلكية المباني والمنشآت المعمارية" تتوقف مع المِلكية العامة لجميع المباني التي تمتلكها الدولة أو المعبودات من قصور ومعابد وأسوار وأبراج. كما تم معرفة ما كان يمتلكه الأفراد والجماعات من مِلكيات خاصة كالبيوت والقبور، وغير ذلك.